الأكثر؛ فلا يحتاج إلى هذا التوفيق الذي قاله على أنَّه لا عُذر للغائبين، فقديسألون برسول، أو كتاب، أو يبلغهم ممن كان بحضرته عليه السلام، فالجواز مطلقًا هو الحق، والحق أحق أن يتبع.
(فشَكوا)؛ بفتح الشين المعجمة، والكاف المخففة، من الشِكاية: وهي رفع الأمر إلى الحاكم أو غيره ممن له قدرة على رفعه (ذلك) أي: المذكور (إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) وفي الرِّواية السَّابقة: (فشَكوا ذلك إلى أبي بكر)، ولا منافاة بينهما؛ فإن في الرواية السابقة عَلموا بقرائن المقال والأحوال أنَّه يتغير خاطره عليه السَّلام على السيدة عائشة، وهنا في هذه الرواية عَلِموا بقرائن الأحوال والمقال: أنَّه لا يتغير خاطره عليه السَّلام عليها، ويحتمل أنَّه هناك شَكوا إلى أبي بكرٍ؛ لكونه عليه السلام كان نائمًا، وهنا كان يقظان؛ فافهم.
(فأنزل الله) سبحانه وتعالى (آية التَّيمم) وهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ..} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: ٦] في سورة (المائدة)، والظاهر أنَّه عليه السَّلام قبل نزول الآية توقف عن جوابهم حين شَكوا إليه؛ طمعًا بنزول الوحي، فحقق الله رجاءه؛ لأنَّه لا يَنطقُ عن الهوى؛ فتأمل.
(فقال أُسَيْد بن حُضَيْر) بضمِّ الهمزة؛ مصغرًا، وبضمِّ الحاء المهملة، وفتح الضاد المعجمة، وسكون التحتية: هو ابن شمال الدوسي الأنصاري الأشهلي أبو يحيى، أحد النقباء ليلة العَقَبَة (لعائشة) : زوج النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ورضي الله عنها (جزاكِ الله خيرًا)؛ بكسر الكاف؛ أي: قابلكِ وأعطاكِ الله الخير الجزيل، (فوالله ما نزل بك أمر) من الأمور (تكرهينه) طبعًا؛ لأنَّه في الشَّرع غير مكروه؛ لأنَّ العبد تحت إرادة الله يُسَيِّره كيف يشاء، لا سيما هذه القصة (إلا جعل الله ذلك) أي: الأمر المكروه طبعًا (لكِ) بكسر الكاف (وللمسلمين فيه خيرًا) حيث دلهم سبحانه على استعمال الصعيد عند فقد الماء في الصَّلاة، ولا ريب أنَّها خيرٌ؛ لأنَّه جعلها عماد الدِّين، وصحتها إنَّما تكون بالطَّهارة؛ لأنَّ أول شيء يُسأل عنه العبد في القبر الطهارة.
وجهُ مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة في قوله: (فأدركتهم الصَّلاة وليس معهم ماءٌ)، وأما وجه زيادة قوله في التَّرجمة: (ولا ترابًا)؛ فهو أنهم لما صلوا بلا وضوء ولم يتيمموا لعدم علمهم به، ولعدم وجود النص؛ فكأنهم لم يجدوا ماءً ولا ترابًا؛ إذ كان حكمه حكم العدم عندهم، فصاروا كأنهم لم يجدوا ماء ولا ترابًا.
فإن قلت: وروى الحافظ الطحاوي في هذا الحديث: (أنَّ منهم من تيمم إلى الكفِّ، ومنهم من تيمم إلى المَنكِب، ومنهم من تيمم على جلده...)؛ الحديث.
قلت: هذا التيَّمم ليس بشيءٍ؛ لعدم وجود النَّص، فصار كأنهم صلوا بغير طهور، ويؤيده رواية الطَّبراني في هذا الحديث، وفيه: (فصلوا بغير طهور...)؛ الحديث، وهو شاملٌ للطهارة بالماء وبالتراب، فدلَّ هذا على أن التيمم حكمه حكم العدم، وتمامه فيما قدمناه.
وفي الحديث دليلٌ على جواز الحلف بالله تعالى من غير طلبٍ، وفيه دليلٌ على جَواز الاستعارةِ، وجَواز السَّفر بالعارية عند إِذن صاحبها، وفيه دليل على أنَّ الأموال محترمة، وأنه لا يُضيِّعها وإن قلت.
وفيه دليل على فضل السيدة عائشة رضي الله عنها، وفيه دليل على جواز التيمم في السفر، وجواز السَّفر بالنَّساء، وفي الحديث دليل على أن مَنْ فقد الماء والتُّراب؛ يصلي على حاله، وهذه المسألة فيها خلافٌ بين العلماء، فقال الإمام الأعظم رأس المجتهدين فيمن حُبِسَ في المصر ولم يجد ماءً ولا ترابًا طاهرًا: إنه لا يصلي وقتئذٍ، وعليه قضاؤها، وبه قال محمَّد بن إدريس، وقال الإمام أبو يوسف: يصلي تشبيهًا ويعيد، وكيفية صلاته عنده: أن يصلي قاعدًا بالإيماء، كذا في الزِّيادات، وقول الإمام محمَّد بن الحسن مضطرب، فروي عنه: أنه يصلي، وروي عنه أنه لا يصلي، ووجه قول الإمام أبي يوسف: (أنه يصلي احترامًا للوقت)، وفي رواية عنه: (أنه يتيمم بالتراب النجس)، وفي رواية عنه أيضًا: (أنه يصلي بركوع وسجود، ثم يعيد)، كذا في «المجتبى»، والمعتمد قول الإمام الأعظم صاحب المذهب الذي إلى غير قوله لا يُذْهَب؛ لأنَّه مُحدِث وتحرم الصَّلاة مع الحدث، وقد جاء في الحديث الصحيح: أنه عليه السَّلام قال: «لا صلاة إلا بطهور...»؛ الحديث، وقد جاء في القرآن العظيم ذلك؛ فافهم.
فإن قلت: ظاهر هذا الحديث أنهم صلوا بغير طهور؟
قلت: ليس المعنى كذلك، وإنما معنى قوله: (فصلوا) دَعَوا؛ يعني: دعوا الله تعالى أن يبيِّن لهم النَّص في ذلك؛ لأنَّهم حصل لهم كربٌ وغمٌّ في ذلك، ويدل لهذا قول أُسَيْد بن حضير لعائشة: (فواالله ما نزل بك أمر تكرهينه)، ولا ريب أن ترك الصَّلاة، أو الصَّلاة بغير طهور أمر مكروه شرعًا، فاجتهدوا في الدعاء، فأنزل الله النَّص في ذلك على أنه قد روى الحافظ الطحاوي في هذا الحديث: (أن منهم من تيمم إلى الكفِّ، ومنهم من تيمم إلى المنكب، ومنهم من تيمم على جلده...)؛ الحديث، فلو قلنا: إن صلاتهم بركوع وسجود؛ فالأمر ظاهر؛ فإنهم بذلك قد ارتفع حدثهم؛ لأنَّهم فعلوا التيمم مع زيادة، وهذا إنَّما صدرَ منهم بالاجتهاد، وهو في عصره عليه السَّلام جائز سواء كانوا غائبين أم حاضرين، وهو المختار، وقول الجمهور كما بيناه، والله تعالى أعلم.
وقال الشافعي وأحمد: يجب عليه أن يصلي ويعيد الصَّلاة، وعلَّله القسطلاني: بأنهم صلوا معتقدين (١) وجوب الصَّلاة، ولو كانت الصَّلاة ممنوعة؛ لأنكر عليهم الشارع عليه السلام، انتهى.
قلتُ: وهذا ممنوع؛ لأنَّ المراد بالصَّلاة الدعاء كما مر، وعلى فَرَضِ أنها بركوع وسجود كانوا ممنوعين حينئذٍ؛ لأنَّهم مُحدِثُون، والنبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أخبرهم بأن الله لا يقبل الصَّلاة بغير طهور، ولما فرغوا من صلاتهم، وشكوا إليه عليه السلام ذلك؛ فبمجرد شكواهم أنزل الله آية التيمم، فلم يكن حينئذٍ وقت يسع الإنكار عليهم ولا التسليم، ويدل لهذا قوله: فشكوا ذلك إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فأنزل الله آية التيمم، فأتى بـ (الفاء) التعقيبية، وهي تفيد أن نزول الآية عقب الشَّكوى بلا مُهلة، فلم يوجد ما يدل على عدم الإنكار، وزعم المزنيُ من الشَّافعية، وسحنون من المالكية، وأحمد: أنه يصلي استحبابًا، ولا إعادة عليه؛ لحديث الباب، فإنه لو كانت الإعادة واجبة عليهم؛ لبيَّنها لهم النبيُّ الأعظم عليه السلام، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وأجيب: بأن الإعادة ليست على الفور، ويجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
قلتُ: ولما كانوا معتقدين وجوب الصَّلاة عليهم وشكوا أمرهم إليه عليه السلام، وأُنزلت الآية تُبين خطأهم؛ فلا ريبَ أنَّهم أعادوا تلك الصَّلاة، ولا يلزم بيانها لهم، بل بيان آية التيمم كافية؛ لأنَّه قد ظهر أنهم صَلُّوا على خلافها، وهو يدل
(١) في الأصل: (مقتقدين)، وهو تحريف.