للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الصلاة بالمرأة، والحمار، والكلب، وأنكرت على الذي لم يقل بنسخ الحكم، فإنكارها إنَّما كان لبقاء الحكم وعدم المصير إليه، وأما المرور؛ فإنما أنكرت فعله؛ لعلمها بحديث المار وماذا عليه من الإثم؛ لأنَّه عليه السَّلام لمَّا شرع في الصلاة؛ لم يضع سترة؛ لأنَّه ليس في بيته سوى عائشة وهي راقدة، فلا تلزم السترة حينئذ، فلما أفاقت عائشة ولم تر السترة بين يديه؛ كرهت أن تجلس فتستقبله وتؤذيه بالمرور بين يديه؛ فانسلت، ويدل عليه رواية النسائي: (فأكره أن أقوم فأمر بين يديه)، فالمراد بالإيذاء: المرور، والأحاديث يفسِّر بعضها بعضًا، وذلك لأنَّ الصلاة مناجاة الرب، فالنَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم له المقامات العالية في المناجاة، فخشيت أن تشغله أو تلهيه بمرورها؛ فانسلت، إذا علمت هذا؛ علمت أن عبارته قاصرة؛ فافهم.

فإن قلت: التَّرجمة عامة والحديث خاص، فما مطابقته للتَّرجمة؟

قلت: أجاب إمامنا الشَّارح: بأن عائشة أنكرت على من ذكر عندها أن الصلاة يقطعها الكلب، والحمار، والمرأة؛ بكونها على السرير بين يديه عليه السَّلام وبين القبلة وهي مضطجعة، ولم يجعل ذلك عليه السَّلام قاطعًا لصلاته؛ فهذه الحالة أقوى من المرور، فإذا لم يقطع في هذه ففي المرور بالطريق الأولى، ثم المرور عامٌّ من أي حيوان كان؛ لأنَّ الشَّارع جعل كل مارٍّ بين يدي المصلي شيطانًا، وذلك في حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم، وهو بعمومه يتناول بني آدم وغيرهم، ولم يجعل نفس المرور قاطعًا، وإنما ذمَّ المار حيث جعله شيطانًا من باب التشبيه، انتهى، قلت: وهو وجيه فاحفظه.

وزعم الكرماني: (فإن قلت: دل الحديث على أنَّ المرأة لا تقطع فقط، والتَّرجمة أعم من ذلك، قلنا: المراد من «الشيء» هذه الثلاثة، والقرائن تدل على التخصيص) انتهى.

قلت: وعلى هذا فلا مطابقة بين الحديث والتَّرجمة، وهو فاسد الاعتبار فإن لفظة (شيء) في التَّرجمة عامة تشمل بني آدم والحيوانات؛ لأنَّها نكرة في مقام النَّفي، فتَعُم، والحديث دال على ذلك؛ لأنَّ عائشة لمَّا أنكرت على من يقول: بقطع الصلاة بهذه الثلاثة؛ شمل إنكارها المرأة جميع بني آدم، والكلب والحمار جميع الحيوانات؛ لأنَّ الألف واللَّام في كل منها للجنس ويلحق بها ما عداهما من كل ما يدبُّ على وجه الأرض، وذلك بحكم المرور، كما بيَّنه حديث أبي سعيد: (إن المار شيطان)، وهو عام، فيعمُّ؛ فافهم.

ثم زعم الكرماني: (فإن قلت: غرض عائشة دفع المساواة بينها وبين الحمار والكلب، وعليه لزم المساواة في عدم القطع لا فيه؛ قلت: غرضها نفي المساواة في الشر لا مطلق المساواة، أو لعل مذهبها أن الكلب والحمار يقطعان) انتهى.

قلت: وهذا ليس بشيء فإن غرضها عدم المساواة من حيث إنَّ المرأة لا تذكر مع الكلب والحمار؛ لشرفها وخستهما، ويدل عليه ما رواه أحمد عنها: (لا يقطع صلاة المسلم شيء إلا الحمار، والكافر، والكلب، والمرأة، فقالت عائشة: يا رسول الله؛ لقد قُرنَّا بذوات سوء)، وليس مذهبها: أنهما يقطعان؛ لأنَّ حديث الباب دال على ذلك؛ لأنَّها أنكرت بقاء حكم قطع الصلاة بهذه، وأنكرت عدم النَّسخ، يدل عليه قولها: (والله لقد رأيت...) إلخ، فإنَّه دال على أنَّها كانت ترى نسخ الحكم، وأنكرت بقاء الحكم وعدم المصير إليه؛ فافهم.

وقال الكرماني: (فإن قلت: القائلون بقطع الصلاة بمرورهم من أين قالوا به؟ قلت: إما باجتهادهم، ولفظ: «شبهتمونا» يدل عليه، وإما بما ثبت عندهم من قول الرسول بذلك) انتهى.

وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (هذا السؤال سؤال من لم يقف على الأحاديث التي فيها القطع، وأحد شقي الجواب غير موجه؛ لأنَّه لا مجال للاجتهاد عند وجود النصوص) انتهى.

ثم قال الكرماني: فإن قال الرسول به؛ فلم لا نحكم بالقطع؟ قلت: إما لأنها رجحت خبرها على خبرهم من جهة أنها صاحبة الواقعة، أو من جهة أخرى، أو أنها أولت القطع بقطع الخشوع ومواظبة القلب اللسان في التلاوة لا قطع أصل الصلاة، أو جعلت حديثها وحديث ابن عبَّاس من مرور الحمار والأتان ناسخين له، وكذا حديث أبي سعيد؛ حيث قال: (فليدفعه فليقاتله) من غير حكم بانقطاع الصلاة بذلك.

فإن قلت: لم لا تعكس بأن تجعل الأحاديث الثلاثة منسوخة به؟ قلت: للاحتراز عن كثرة النَّسخ؛ إذ نسخ حديث واحد؛ أهون من نسخ ثلاثة أو لأنها كانت عارفة بالتاريخ وتأخرها عنه) انتهى.

قلت: الجواب الأول: (أنها رجحت خبرها...) إلخ، لم يذكر وجه الترجيح سوى أنها صاحبة الواقعة وهو لا يفيد الترجيح، والجواب الثاني: فاسد الاعتبار؛ لأنَّ الخشوع في الصلاة غير شرط اتفاقًا، والجواب الثالث؛ وهو النَّسخ هو الصَّواب، فإنَّها قد أنكرت بقاء حكم القطع، ورأت النَّسخ فيه، ويدل عليه قولها: (والله لقد رأيت...) إلخ.

والجواب في الثاني: (للاحتراز...) إلخ: فيه نظر، فإن الأحاديث الثلاثة في حكم واحد وحديثها في حكم واحد، ففيه نسخ حكم وإثبات حكم، فليس فيه كثرة النَّسخ، والجواب الثاني: إن كان معناه أن حديثها هو المتأخر عن حديثهم؛ فهو صواب، وإن كان حديثهم هو المتأخر عن حديثها؛ فليس بشيء؛ لأنَّ عائشة جعلت حديثها ناسخًا لأحاديثهم سواء كان مقدمًا أو مؤخرًا، بل الظَّاهر: أن حديثها هو المتأخر، وأن أبا هريرة وأبا سعيد لم يبلغهم النَّسخ إلا منها، يدل عليه أن الحافظ الطَّحاوي أخرج عن ابن المسيب بإسناد صحيح أن عليًّا وعثمان قالا: (لا يقطع صلاة المسلم شيء...)؛ الحديث، ولا يخفى أن مثل هذا لا يقال بالرأي، بل بالسَّماع من النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّهما من الملازمين لأفعال المصطفى وأقواله رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.

[حديث: لقد كان رسول الله يقوم فيصلي من الليل]

٥١٥ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا إسحاق بن إبراهيم) هو الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه، هذه رواية أبي ذر، وفي رواية غيره: (إسحاق) غير منسوب، وجزم ابن السكن بأنه ابن راهويه، وقال: كل ما في «البخاري» : (عن إسحاق) غير منسوب؛ فهو ابن راهويه، وزعم أبو نعيم أنَّه إسحاق بن منصور الكوسج، قال الكلاباذي: (إسحاق بن إبراهيم وإسحاق بن منصور كلاهما يرويان عن يعقوب)، كذا حققه صاحب «عمدة القاري»، وتبعه ابن حجر والقسطلاني، وزعم العجلوني أن رواية أبي ذر: (إسحاق بن منصور)؛ وهو خطأ ظاهر؛ فاجتنبه، (قال أخبرنا) وفي رواية: (حدثنا) (يعقوب بن إبراهيم)، زاد أبو ذر وأبو الوقت: (ابن سعد) هو المدني، (قال: حدثني)؛ بالإفراد، وللأصيلي: (حدثنا) بالجمع، ولأبي ذر: (أخبرنا) (ابن أخي ابن شهاب) هومحمَّد بن عبد الله بن مسلم الزهري المدني: (أنه) بفتح الهمزة (سأل عمه) هو محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري المدني (عن الصلاة) مطلقًا (يقطعها)؛ بحذف همزة الاستفهام؛ أي: أيقطعها، وسياق الكلام يدل عليه، قيل: وفي نسخة: أيقطعها -بإثبات الهمزة- (شيء)؛ أي: من مرور الكلب، والحمار، والمرأة، (فقال) أي: ابن شهاب، وللأصيلي: (قال) (لا يقطعها شيء)؛ أي: لا يقطع الصلاة شيء، وهذا عام مخصوص بالأمور الثلاثة التي وقع النزاع فيها؛ لأنَّ القواطع في الصلاة كثيرة؛ مثل القول والفعل الكثير وغيرهما، وما من عام إلا وقد خص، قاله إمامنا الشَّارح، قلت: وقد يقال في معناه: لا يقطعها شيء؛ أي: من غير فعل المصلي، وفيه: أنَّه لو ألقى أحد عليه نجسًا مانعًا؛ يقطع صلاته مع أنَّه من غير فعل المصلي؛

<<  <   >  >>