صلاة المسلم شيء)، فقد دل هذا على ثبوت نسخ ما كان سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار ما قال به أولى عنده من ذلك، انتهى.
وزعم ابن حجر: وتعقب بأنَّ النَّسخ لا يصار إليه إلا إذا علم التاريخ وتقدر الجمع، والتاريخ هنا لم يتحقق والجمع لم يتعذر، انتهى.
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: لا نسلم ذلك؛ لأنَّ مثل ابن عمر رضي الله عنهما بعدما روي عنه: أن المرور يقطع قال: لا يقطع صلاة المسلم شيء، فلو لم يثبت عنده نسخ ذلك؛ لم يقل بما قال: من عدم القطع، ومن الدليل على ذلك: أن ابن عبَّاس الذي هو أحد رواة القطع روي عنه: أنَّه حمله على الكراهة؛ قال البيهقي: روى سماك عن عكرمة: قيل لابن عبَّاس: أتقطع الصلاة المرأة، والكلب، والحمار؟ فقال: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفع، فما يقطع هذا، ولكن يكره، انتهى.
وقال الإمام الحافظ الطَّحاوي: وقد روي عن نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن مرور بني آدم وغيرهم بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة، ثم أخرج عن سعيد بن المسيب بإسناد صحيح: أن عليًا وعثمان رضي الله عنهماقالا: لا يقطع صلاة المسلم شيء وادرؤوا ما استطعتم، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة، وأخرج الطَّبراني من حديث عَلِيٍّ مرفوعًا: «لا يقطع الصلاة شيء إلا لحدث» انتهى.
وقال الشَّافعي: تأول القطع بنقص الخشوع، قلت: وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ الخشوع في الصلاة غير شرط اتفاقًا.
وقال بعضهم: حديث أبي ذر مقدَّم؛ لأنَّ حديث عائشة على أصل الإباحة، قلت: وهذا مبني على أنَّ حديث عائشة ناسخ لحديث أبي ذر؛ لأنَّه متأخر عنه، كما حققه الحافظ الطَّحاوي.
وزعم العجلوني أن قول بعضهم مبني على أنَّهما متعارضان ولا تعارض؛ لإمكان الجمع بنقص الخشوع.
قلت: ما زعمه فاسد الاعتبار فإن ظاهر اللفظ يدل على أنَّ هذا مبني على النَّسخ لا على التعارض؛ لأنَّ قوله: (حديث أبي ذر مقدَّم) يعلم منه حقيقة أن حديث عائشة هو المتأخر، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، وما زعمه من عدم التعارض لإمكان الجمع؛ فاسد أيضًا؛ لأنَّ الجمع بنقص الخشوع باطل؛ لأنَّه غير شرط، كما ذكرنا، فالحق والصَّواب ماقلناه؛ فليحفظ.
فإن قلت: إنكار عائشة على من ذكر المرأة مع الحمار والكلب فيما يقطع الصلاة مع أنها روت الحديث عن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ كما رواه أحمد ابن حنبل، ولفظه: «لا يقطع صلاة المسلم شيء إلا الحمار، والكافر، والكلب، والمرأة»، فقالت عائشة: يا رسول الله؛ لقد قُرِنَّا بذوات سوء.
قلت: إن عائشة لم تنكر الحديث ولم تُكذِّب أبا هريرة، وإنما أنكرت بقاء الحكم وعدم المصير إلى النَّسخ؛ لأنَّها كانت ترى نسخ الحكم، ولهذا قالت: (والله لقد رأيت) أي: بصرت (النَّبي) الأعظم، وللأصيلي: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم) وجملة (يصلي) : محلها نصب مفعول ثان؛ أي: النافلة ليلًا، ومع هذا كانت عائشة تكره أن يذكر المرأة مع الحمار والكلب؛ لشرفها وخستهما، ولهذا قالت: يا رسول الله؛ لقد قُرنَّا بذوات سوء؛ فافهم، وفي هذا دليل على جواز الحلف بدون استحلاف، وفيه: استحباب قيام الليل بالصلاة، والذكر، وتلاوة القرآن، ولو بحضرة أهله وهم نيام؛ لما في ذلك من الثواب الجزيل، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، (وإنِّي)؛ بكسر الهمزة وتشديد النُّون، بعدها ياء المتكلم، ولأبوي ذر والوقت والأصيلي: (وأنا) (على السرير)، وفي رواية: (إلى السرير)؛ أي: عليه، فكلمة (إلى) بمعنى: على، وحروف الجر يستعار بعضها مكان بعض، كما لا يخفى على أولي الألباب، والجملة اسمية محلها نصب على الحال من عائشة، وكذلك قولها: (بينه وبين القبلة)؛ أي: أمامه بالقرب من موضع سجوده؛ جملة حالية، وقوله: (مضطجعةٌ)؛ بالرفع خبر لمبتدأ محذوف؛ تقديره: وأنا مضطجعة، وعلى هذا تكون الجملة أيضًا حالًا، ويجوز أن يكون (مضطجعةٌ)؛ بالرفعخبرًا لقوله: (وأنا) أو (إني)؛ أي: والحال أني مضطجعة على السرير، فعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير مبتدأ، وأما وجه النصب في (مضطجعة)؛ فعلى أنَّه حال من عائشة أيضًا، ثم يجوز أن يكون هذان حالان مترادفين، ويجوز أن يكونا متداخلين، كذا حققه إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
قلت: وكون (مضطجعةً) بالنصب رواية أبي ذر، والوجهان في «اليونينية».
والحاصل: أنه يجوز فيها وجهان: الرفع والنصب؛ فالرفع له وجهان، والنصب له وجه واحد؛ فافهم.
(فتبدوا)؛ أي: تظهر (لي الحاجة)، وفي «مسند السراج» : (فيكون لي حاجة)؛ أي: حاجة الإنسان ويحتمل الأعم منها، (فأكره)؛ بفتح الهمزة؛ أي: لا أحب (أن أجلس)؛ أي: مستقبل النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وذكر في باب (الصلاة على السرير) : (فأكره أن أسنحه)، وفي باب (استقبال الرجل) : (فأكره أن استقبله)، والمقصود من ذلك كله واحد، لكن باختلاف (١) المقامات اختلفت العبارات، قاله الشَّارح، (فأؤذي)؛ بلفظ المتكلم من المضارع، وفاعله: الضمير فيه، وهو معطوف على (أجلس)، وقوله: (النَّبيَّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ بالنصب مفعول (أؤذي)، وعند النسائي من طريق شعبة، عن منصور، عن الأسود، عن عائشة في هذا الحديث: (فأكره أن أقوم فأمر بين يديه)، قلت: وعلى هذا فالمراد بالإيذاء في حديث الباب: هو المرور بين يديه، وذلك لأنَّه عليه السَّلام في مقام المناجاة لربه تعالى، فربما بمرورها يحصل له قطع ذلك، وسيأتي بقية الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
(فأنسلُّ)؛ بالرفع عطفًا على (فأكره) لا على (أجلس) ولا (فأؤذي)؛ لفساد المعنى؛ فتأمل، قاله العجلوني.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه يجوز عطفه على (فأؤذي) وعليه فالمعنى به صحيح؛ لأنَّ وجه انسلالها عدم إيذائه عليه السَّلام، وكذا يجوز عطفه على (أجلس) والمعنى به صحيح؛ لأنَّ علة انسلالها هو عدم جلوسها؛ لعدم إيذائها النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، لكن فيه تكلف، وإلى هذا أشار العجلوني بالتأمل.
فالحاصل: أن (فأنسل) يجوز فيه الرفع والنصب؛ ومعناه: أي: أمضي بتأنٍّ وتدريج وخفية ورفق، وفي رواية الطَّحاوي وكذا المؤلف: (فأنسل انسلالًا) (من عند رجليه)؛ بالتثنية؛ أي: من جهتهما، فإذا كانت المرأة لا تقطع الصلاة مع أن النفوس تشتغل بها أكثر، فغيرها من الكلب والحمار بالطريق الأولى، وروى الشيخان عن عروة عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا معترضة بين يديه كاعتراض الجنازة)، وفي رواية: (وأنا حذءاه)، وفي أخرى: (وأنا حائض)، ولا يخفى أن اعتراض المرأة خصوصًا الحائض بين المصلي وبين القبلة لا يقطع الصلاة؛ فغيرها من الحمار والكلب بالأولى.
وزعم ابن حجر أن التشويش بالمرأة وهي قاعدة يحصل منه ما لا يحصل بها وهي راقدة من جهة الحركة والسكون، انتهى.
قلت: وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ المرأة سواء كانت قاعدة أو راقدة لا تشوش على المصلي، وليس بين القاعدة والراقدة فرق أصلًا، فإنَّه كما تتحرك القاعدة كذلك تتحرك الراقدة، فإن النائم لا ينام على جنب واحد طول نومه، بل ينقلب يمينًا وشمالًا، ويدل على [ما] قلناه أن عائشة قالت: (فأكره أن أجلس فأؤذي)، إنَّما كَرِهَت الجلوس؛ لأنَّه بجلوسها تستقبل وجهه عليه السَّلام، كما دلت عليه رواية باب (استقبال الرجل)، فإنَّها صرحت هناك بقولها: (فأكره أن أستقبله)، ومعلوم أن الاستقبال منهي عنه في حديث ما؛ فافهم.
ثم زعم ابن حجر أن الظَّاهر: أن عائشة إنَّما أنكرت إطلاق كون المرأة تقطع الصلاة في جميع الحالات لا المرور بخصوصه، انتهى.
قلت: الظَّاهر من حال عائشة: أنها أنكرت مساواة المرأة للحمار والكلب، وأنكرت حكم قطع
(١) في الأصل: (اختلاف)، ولعل المثبت هو الصواب.