للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

المذكور، والظاهر: الأول، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري».

(ولم يكن في شيء من ذلك هدي، ولا صوم، ولا صدقة) وظاهره مشكل؛ فإنها إن كانت قارنة؛ فعليها الهدي للقران عند كافة العلماء إلا داود، وإن كانت متمتعة؛ فكذلك، لكنها كانت فاسخة كما سلف، ولم تكن (١) قارنة ولا متمتعة، وإنما أحرمت بالحج، ثم نوت فسخه في عمرة، فلما حاضت ولم يتم لها ذلك؛ رجعت إلى حجها، فلما أكملته؛ اعتمرت عمرة مبتدأة، نبه عليه القاضي عياض، واعترضه إمام الشارحين في «عمدة القاري» بأنه يعكر عليه قولها: (وكنت ممن أهل بعمرة)، وأجاب: بأن هشامًا لما لم يبلغه ذلك؛ أخبر بنفيه، ولا يلزم من ذلك نفيه في نفس الأمر، ويحتمل أن يكون لم يأمر به، بل نوى أنه يقوم به عنها، بل روى جابر رضي الله عنه: أنه صلَّى الله عليه وسلَّم أهدى عن عائشة بقرة، وقال القاضي عياض: فيه دليل على أنها كانت في حج مفرد، لا تمتع ولا قران؛ لأنَّ العلماء مجمعون على وجوب الدم فيهما) انتهى، والله أعلم.

(١٧) [باب: {مخلقة وغير مخلقة}]

هذا (بابٌ)؛ بالتنوين في بيان قول الله عز وجل -كما للأصيلي- أو قول النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (مخلقة)؛ يعني: إذا أراد الله أن يقضي خلقه؛ قال الملك: مخلقة، وإذا لم يرد ذلك؛ قال: (غير مخلقة) أي: تامة أو غير تامة، قاله قتادة، وعن الشعبي: (النطفة، والعلقة، والمضغة إذا كسيت في الخلق؛ كانت مخلقة، وإذا قذفتها قبل ذلك؛ كانت غير مخلقة)، وعن أبي العالية: (المخلقة: المصورة، وغير المخلقة: السقط)، وقال جار الله الزمخشري: (مخلقة: أي: مسواة ملساء من العيب والنقصان، يقال: خلق السواد؛ إذا سواه وملسه، وغير مخلقة؛ أي: غير مسواة)، وروي عن علقمة: (إذا وقعت النطفة؛ قال له الملك: مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة؛ مجها الرحم دمًا، وإن قال: مخلقة؛ قال: ذكر أم أنثى)، ويحتمل أن يكون المؤلف أراد الآية الكريمة فأورد الحديث؛ لأنَّ فيه ذكر المضغة، والصفة مخلقة وغير مخلقة، كذا في «عمدة القاري».

وزعم ابن حجر أنه رواه بالإضافة؛ أي: باب تفسير قوله: مخلقة وغير مخلقة.

ورده إمام الشارحين فقال: قلت: ليت شعري؛ هل روى هذا عن البخاري نفسه أم عن الفربري؟! وكيف يقول: باب تفسير قوله تعالى: {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: ٥]، وليس في متن حديث الباب: مخلقة وغير مخلقة، وإنما فيه ذكر المضغة، وهي مخلقة وغير مخلقة؟) انتهى.

قلت: على أنه ليس مراد المؤلف تفسير المخلقة وغير المخلقة، وإنما مراده: أن الحامل لا تحيض، يدل لذلك أنه بصدد كتاب (الحيض)، ومحل ما زعمه هذا القائل كتاب (التفسير) فكيف خفي هذا على من ادعى الرساخة في العلم، وليس عنده شيء من الفهم؟! والأحسن في إعرابه أن يكون (باب) منونًا، ويكون خبر مبتدأ محذوف، كما قدرناه؛ فليحفظ.

واعلم: أن غرض المؤلف هنا الإشارة إلى أن الحامل لا تحيض؛ لأنَّ اشتمال الرحم على الولد يمنع خروج دم الحيض، ويقال: إنه يصير غذاء للجنين، وممن ذهب إلى أن الحامل لا تحيض رأس المجتهدين الإمام الأعظم، وأصحابه، والأئمَّة الكوفيون، وأحمد ابن حنبل، وأبو ثور، والأوزاعي، والثوري، والحسن البصري، وعطاء، وسَعِيْد بن المسيب، والشعبي، والزُهْرِي، والحكم، وحمَّاد، ومكحول، ومحمَّد بن المنكدر، وجابر بن زيد، وابن المُنْذِر، وأبو عبيد، والشافعي في أحد قوليه، وهو القول القديم، وقال في الجديد: إنها تحيض، وبه قال إسحاق، وعن مالك روايتان، وحكي عن بعض المالكية: إن كان في آخر الحمل؛ فليس بحيض، وإن كان في أوله؛ فحيض، وذكر الداودي: (أن الاحتياط أن تصوم وتصلي، ثم تقضي الصوم، ولا يأتيها زوجها).

وقال ابن بطال: (غرض البخاري بإدخال هذا الحديث في أبواب الحيض تقوية مذهب من يقول: إن الحامل لا تحيض) انتهى؛ يعني: وضعف من يقول: إنها تحيض، وأنه قول شاذ، لا يعتمد عليه.

وزعم ابن حجر (أن في الاستدلال بالحديث المذكور على أنها لا تحيض نظر؛ لأنَّه لا يلزم من كون ما يخرج من الحامل من السقط الذي لم يتصور ألا يكون الدم الذي تراه المرأة التي (٢) يستمر حملها ليس بحيض، وما ادعاه المخالف؛ من أنه رشح من الولد، ومن فضلة غذائه، أو دم فاسد، أو لعلة؛ فيحتاج إلى دليل؛ لأنَّ هذا دم بصفات دم الحيض، وفي زمن إمكانه، فله حكم دم الحيض، فمن ادعى خلافه؛ فعليه البيان) انتهى.

ورده إمام الشارحين في «عمدة القاري» فقال: قلت: إنَّما ادعيت الخلاف، وعليَّ البيان، أما أولًا؛ فنقول: لنا في هذا الباب أحاديث وأخبار؛ منها: حديث سالم عن أبيه وهو: أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء؛ أمسكها، وإن شاء؛ طلقها قبل أن يمس، فذلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء» متفق عليه.

ومنها: حديث أبي سَعِيْد الخدري رضي الله عنه قال في سبايا أوطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة» رواه أبو داود.

ومنها: حديث زريع بن ثابت قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يحل لأحد أن يسقي ماءه زرع غيره، ولا يقع على أمة حتى تحيض، أو يتبين حملها» رواه أحمد ابن حنبل، فجعل النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وجود الحيض علامة على براءة الرحم من الحبل في الحرتين، ولو جاز اجتماعهما؛ لم يكن دليلًا على انتفائه، ولو كان بعد الاستبراء بحيضة احتمال الحمل؛ لم يحل وطؤها للاحتياط في أمر الإبضاع.

وأما الأخبار؛ فمنها: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن الله رفع الحيض عن الحبلى، وجعل الدم رزقًا للولد)، رواه ابن شاهين.

ومنها: ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إن الله رفع الحيض وجعل الدم رزقًا للولد مما تفيض الأرحام)، رواه ابن شاهين أيضًا.

ومنها: ما رواه الدارقطني والأشرم بإسنادهما عن عائشة رضي الله عنها في الحامل ترى الدم فقال عليه السلام: «الحبلى لا تحيض، وتغتسل وتصلي»، وقولها: (تغتسل) استحباب؛ لكونها مستحاضة، ولا يعرف عن غيرهم خلافه) انتهى؛ فافهم.

وزعم ابن حجر: أن هذه الأخبار لم تثبت، نقله عنه القسطلاني.

قلت: قد علمت غير مرة عناد ابن حجر وتعنته وتعصبه، وقد حذا حذوه شيخ قسطلان، وهذا فاسد؛ لأنَّ هذه الأخبار والآثار قد علمت وسمعت أنها روتها الثقات من المحدثين الحفاظ الكبار، لا سيما حافظ السنة على التحقيق الإمام أحمد، وكذا أبو داود والدارقطني، وغيرهم، وكيف يدعي فيما رأَوه هؤلاء عدم الثبوت وما هي إلا دعوى أوهى من بيت العنكبوت، ولا يدعيها إلا من لم يشم شيئًا من رائحة العلم.

وقول القسطلاني: (وأقوى حجج من ذهب أن الحامل لا تحيض أن استبراء الأمة اعتبر بالحيض؛ لتحقق براءة الرحم من الحمل، فلو كانت الحامل تحيض؛ لم تتم البَرَاءة بالحيض) باطل؛ فإن هذا تفسير وبيان للحكم، فإن حجج الجمهور الأحاديث النبوية البالغة حد التواتر الواردة في الباب المذكور، وهي دالة حقيقة على أن الحامل لا تحيض، وكفى بذلك حجة.

وبقي


(١) في الأصل: (يكن)، وهو تحريف.
(٢) في الأصل: (الذي)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>