للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وهذا يفيد الأمر بالتقاط اللقطة.

قال في «فتاوي الولوالجي» : اختُلف في رفعها؛ فقال بعضهم: رفعُها أفضل من تركها، وقال بعضهم: يحِلُّ رفعُها وتركها أفضل، وفي «شرح الحافظ الطحاوي» : إذا وجد لقطة؛ فالأفضل له أن يرفعها إذا كان يأمن على نفسه، وإذا لم يأمن على نفسه؛ لا يرفعها، ولو رفعها ووضعها في مكانه وهلكت؛ فلا ضمان عليه في ظاهر الرواية عن الإمام الأعظم.

وقال بعض مشايخنا: هذا إذا لم يبرح من ذلك المكان، فإن ذهب عن مكانه، ثم أعادها ووضعها فيه فهلكت؛ فإنَّه يضمن، وقال بعضهم: يضمن مطلقًا، وهو خلاف ظاهر الرواية، وفي «شرح الأقطع» : يستحب أخذ اللقطة ولا يجب، وفي «الخلاصة» : إن خاف ضياعها؛ يفترض الرفع، وإن لم يخف؛ يباح رفعُها، أجمع العلماء عليه، والأفضل الرفع في ظاهر المذهب عن الإمام الأعظم، انتهى.

وعند مالك: قيل: يكره أخذها، وقيل: هو الأفضل، وعند الشافعي: قيل: يستحب الأخذ، وقيل: يجب، وقيل: إن خاف عليها؛ وجب، وإن أمن؛ استُحب، وعن أحمد: يُندب تركها.

(ثم عَرِّفها) للناس بذكر بعض صفاتها في المحافل (سَنَةً) منصوبٌ بنزع الخافض؛ أي: مدة سنة، وفي حديث أُبيٍّ ثلاث سنين، وفي بعض طرقه بالشك في سنة أو ثلاث، ويُحمل إمَّا بطرح الشك والزيادة، أو هي قصتان؛ الأولى للأعراب، والثانية لأُبيٍّ، وهذا يختلف بقِلَّة الشيء الملقوط وكَثرته، قال أصحابنا: يعرِّفها إلى أن يغلب على ظنِّه أنَّ ربَّها لا يطلبُها، وهو الصحيح؛ لأنَّ ذلك يختلف بقِلة المال وكَثرته، وروى الإمام محمد عن الإمام الأعظم: أنَّه إن كانت أقل من عشرة دراهم؛ عرَّفها أيامًا، وإن كانت عشرة فصاعدًا؛ عرَّفها حولًا؛ أي: سنةً، وهو قول مالك والشافعي، وروى الإمام الحسن عن الإمام الأعظم: أنَّها إن كانت مئتي درهم فصاعدًا؛ عرَّفها حولًا، وفيما فوق العشرة إلى مئتين شهرًا، وفي العشرة جمعة، وفي ثلاثة دراهم ثلاثة أيام، وفي درهم يومًا.

وإن كانت ثمرة ونحوها؛ يتصدَّق بها مكانها، وإن كان محتاجًا؛ أكلها مكانها، وفي «الهداية» : إذا كانت اللقطة شيئًا يعلم أنَّ صاحبَها لا يطلبُها؛ كالنواة وقشور الرُّمَّان؛ يكون إلقاؤُه مباحًا، فيجوز الانتفاع به من غير تعريف، لكنَّه باق على ملك مالكه؛ لأنَّ التمليك من المجهول لا يصحُّ، وفي «الواقعات» : المختار في قشور الرُّمَّان والنواة أنَّه يملكها، وفي الصيد: لا يملكه.

وإن جمع سنبلًا بعد الحصاد؛ فهو له لإجماع الناس على ذلك، وإن سلخ شاة ميتة؛ فهو له ولصاحبها أن يأخذه منه، وكذا الحكم في صوفها.

فإن وصف اللقطة وبيَّنها مالكها؛ قال أئمتنا: حلَّ للملتقط أن يدفعها إليه من غير أن يُجبر عليه في القضاء، وقال مالك والشافعي: يُجبر على دفعها؛ لما في «مسلم» : «فإن جاء صاحبها فعرَّف عِفاصها وعددها؛ فأَعْطِها إيَّاه».

قلنا: هذا مدَّعٍ وعليه البيِّنة؛ لقوله عليه السلام: «البيَّنة على المدَّعي»، والعلامة لا تدُلُّ على المِلك ولا على اليد؛ لأنَّ الإنسان قد يقف على مال غيره ويخفى عليه مال نفسه، فلا عبرة بهذا، والحديث محمول على الجواز لا الوجوب؛ توفيقًا بين الأخبار؛ لأنَّ الأمر قد يراد به الإباحة، وبه نقول.

(ثم استمتِعْ بها)؛ بكسر التاء الثانية وتسكين العين؛ أي: إن كان فقيرًا، وإن كان غنيًّا؛ يتصدَّق بها على فقير أجنبي أو قريب منه، هذا قول إمامنا الإمام الأعظم، وبه قال سعيد بن المسيِّب والثوري، ورُوي ذلك عن عليٍّ وابن عباس؛ لقوله عليه السلام: «فليتصدَّق به»، ومحلُّ الصدقة الفقراء، وقال مالك: يستحب أن يتصدق بها، وأباح الشافعي للغني الواجد؛ لحديث أُبَيِّ بن كعب وبظاهر حديث الباب، قلنا: بأنَّ هذا وأمثاله حكايةُ حال، فيجوز أنَّه عليه السلام عَرَفَ فقرَه إمَّا لديون عليه، أو قِلَّة مالِه، أو يكون إذنًا منه عليه السلام بالانتفاع، وهو جائز من الإمام على سبيل القرض، أو أنَّه عَرَفَ أنَّه كان في مال كافر حربيٍّ، (فإن جاء ربها)؛ أي: مالكُها، ولا يُطلق الرَّبُّ على غير الله إلَّا مضافًا مقيَّدًا؛ (فأَدِّها) جواب الشرط؛ أي: أعْطِها (إليه) وهذا حُجَّةٌ على الكرابيسي من الشافعيَّة؛ حيث قال: لا يلزمُه ردُّها بعد التعريف ولا ردُّ بدلها، وهو قول داود ومالك في الشاة.

والحديث دليل ظاهر على أنَّ صاحب اللُّقَطة إذا جاء؛ فهو أحقُّ بها من مُلتقطها إذا أَثبت أنَّه صاحبُها، فإنْ وجدها قد أكلها الملتقط بعد التعريف وأراد أن يُضَمِّنَه قيمتَها؛ كان له ذلك، وإن كان قد تصدَّق بها؛ فصاحبُها مُخَيَّرٌ بين التضمين وبين أن يتركَ على أجرها، رُوي ذلك عن عمر، وعليٍّ، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وقول إمامنا الأعظم، وطاووس، وعِكرمة، وسفيان الثوري، والحسن ابن حيٍّ؛ فليحفظ.

(قال) : يا رسول الله؛ (فضالَّةُ الإبل؟) مبتدأٌ مضاف خبرُه محذوف؛ أي: ما حكمُها؟ أكذلك أم لا؟ فهو من إضافة الصفة للموصوف، والضالَّةُ لا يقع إلَّا على الحيوان، يقال: ضلَّ الإنسان والبعير، وأمَّا الأمتعة ما سوى الحيوان؛ فيقال له: لُقَطَة، (فغضب) عليه السلام (حتى احمرَّت وجنتاه) تثنية وَُِجْنَة؛ وهي ما ارتفع من الخَدِّ؛ بفتح الواو، وكسرها، وضمها، وأُجنة؛ بضمِّ الهمزة، (أو قال: احمرَّ وجهُه) شكٌّ من الراوي، وإنَّما غضب؛ لسوء فهم السائل؛ حيث قاسَ الشيءَ على غيرِ نظيره؛ لأنَّ اللُّقَطة شيءٌ سقط من صاحبه، وأمَّا الإبل؛ فمخالِفةٌ للُّقَطَة اسمًا وصفةً، (فقال) عليه السلام: (ومالَكَ ولها؟) وفي رواية: بإسقاط الواو، وفي أخرى: (فمالَكَ ولها؟) بـ (الفاء) عِوضًا عن (الواو)؛ أي: ما تصنع بها؛ أي: لِمَ تأخذُها ولم تتناولها؟ وإنَّها مستقلة بأسباب تعيُّشها، ففيه نهيٌ عن أخذها (معها سِقاؤها)؛ بكسر السين المهملة؛ مبتدأ، وخبرُه مقدَّم؛ أي: أجوافها؛ فإنَّها تشرب فتكتفي بها أيامًا، والمراد: اللبن والماء (وحِذاؤُها)؛ بكسر الحاء المهملة والمدِّ؛ أي: خِفُّها التي تمشي عليه؛ (ترد الماء) جملة بيانيَّة لا محلَّ لها من الإعراب، أو محلُّها الرفع خبرٌ لمبتدأ محذوف؛ أي: هي ترد الماء، (وترعى الشجر؛ فذرها)؛ أي: دعها، فـ (الفاء) جواب شرط محذوف؛ أي: إذا كان الأمر كذلك؛ فدعها (حتى يلقاها ربُّها) : مالكُها، استدلَّ به مالك، والشافعي، وأحمد على أنَّه لا يجوز التقاط الإبل إذا استغنت بقوتها عن حفظها، وقال الإمام الأعظم: يجوزُ التقاط البهيمة مطلقًا من أيِّ جنسٍ كان؛ لأنَّها مالٌ يُتَوَهَّم ضياعُه، والحديث محمول على أنَّه كان في ديارهم؛ لأنَّه كان لا يُخاف عليها من شيء، ونحن نقول في مثله: يتركها، وهذا لأنَّ بعض البلاد الدوابُّ يسيِّبها أهلها في البراري حتى يحتاجوا إليها، فيمسكوها وقت الحاجة، ولا فائدة في التقاطها حينئذٍ، ويدُلُّ على ما قلناه: ما رواه مالك في «الموطأ» عن ابن شهاب قال: كان ضوالُّ الإبل في زمن عمر إبلًا مؤبلةً تَناتَج (١) لا يمسها أحد، حتى إذا كان عثمان؛ أمر بمعرفتها، ثم تباع، فإذا جاء صاحبها؛ أُعطي ثمنَها؛ فليحفظ.

(قال) : يا رسول الله؛ (فضالَّة الغنم) : اسم مؤنث موضوع للجنس يقع على الذكور والإناث وعليهما جميعًا، مبتدأ مضاف، وخبره محذوف؛ أي: ما حكمُها؟ أهي مثل ضالَّة الإبل أم لا؟ (قال) عليه السلام: ليست كضالَّة الإبل؛ بل هي (لك) إن أخذتَها، ففيه حذف، (أو لأخيك) من اللاقطين إن لم تأخذْها، أو المراد من الأخ: صاحبُها؛ أي: أو هي لأخيك الذي هو صاحبها إن ظهر، (أو للذئب)؛ بالهمز، وقد تخفَّف بقلبها مثناة، والأنثى: ذئبة؛ أي: فيأكلها إن لم تأخذْها، فيكون محلُّ (لكَ) رفعٌ؛ لأنَّه خبرُ مبتدأ محذوف، وكذا (لأخيك) و (للذئب)، وفيه إشارة إلى الإذن بأخذها، فاستدل به المازريُّ لعدم الغرامة؛ لأنَّ قوله: (هي لك) ظاهرُه التمليك، والمالك لا يغرم، وأجيب للإمام الأعظم والإمام الشافعي: بأنَّ اللام للاختصاص؛ أي: إنَّك تختص بها، ويجوز لك أكلُها وأخذُها، وليس فيه تعرُّض للغرم ولا لعدمه؛ بل بدليل آخر؛ وهو قوله: فإنْ جاء ربُّها يومًا؛ فأدِّها إليه؛ فليحفظ، وفي الحديث إبطال قول مدَّعي علم الغيب.

[حديث: سئل النبي عن أشياء كرهها]

٩٢ - وبه قال: (حدثنا) بالجمع، وفي رواية: بالإفراد (محمد بن العلاء) أبو كُريب الكوفي (قال: حدثنا أبو أسامة) حمَّاد بن أسامة الكوفي، (عن بُرَيد)؛ بضم الموحدة وفتح الراء، (عن أبي بُرْدة)؛ بضم الموحدة وسكون الراء، عامر بن أبي موسى الأشعري، (عن أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري (قال: سُئل)؛ بضم السين المهملة وكسر الهمزة، (النبيُّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم عن أشياءَ) ممنوعٌ مِنَ الصرف؛ لأنَّه أشبه (فعلاء)، (كَرِهَها (٢))؛ لأنَّه رُبَّما كان فيها شيء سبب (٣) لتحريمه على المسلمين، فيلحقهم به المشقَّة، أو رُبَّما كان في الجواب ما يكره السائل؛ كقوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: ١٠١].


(١) في الأصل (تنتاج)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (كرها)، وليس بصحيح.
(٣) في الأصل: (سببًا)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>