الأمرية إذا وقعت جزاءً للشرط؛ فلا بد فيها من الفاء.
قلت: تقدير الكلام: فأنت قاتله، انتهى.
وقال الكرماني: ويجوز حذف الفاء منها؛ نحو:
من يفعل الحسنات اللهُ يشكرها... . . . . .. . . . . . . . . . . . . .
وردَّه إمام الشَّارحين: (بأنَّ حذف الفاء فيها لضرورة الوزن، فلا يقاس عليه، ويروى: «فقاتله»؛ بالفاء على الأصل) انتهى.
واعترضه العجلوني بأن حذف الفاء واقع في الاختيار بِقلَّة كما قاله المبرد، ومنه قوله عليه السَّلام: «فإن جاء صاحبها، وإلَّا؛ استمتع بها» انتهى.
قلت: وقوع الحذف اختيارًا قليل ونادر، وهو لا حكم له، بل هو في مقام العدم، فلهذا لم يذكره الشَّارح المحقق وغيره، والجمهور من النحاة أنَّه على التقديم والتأخير، فإذا قلت: إن قام زيد؛ أقوم؛ بالرفع، فما محل (أقوم)؟ ومذهب سيبويه: أن (أقوم) ليس هو الجواب، وإنما هو دليل الجواب، وهو مؤخر من تقديم، والجواب محذوف، والأصل: أقوم إن قام زيد، ومذهب الكوفيين: أنَّ (أقوم) نفس الجواب على إضمار الفاء والمبتدأ؛ والتقدير: فأنا أقوم، وتمامه في شرحنا على «الأزهرية» المسمى بـ «تاج الأسطوانية على شرح شرح الأزهرية»، ويقاس عليه ما ههنا، فلا عليك من العجلوني، فإنَّه بالتعصب مشهور؛ فليحفظ.
[حديث: إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس]
٥٠٩ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو مَعْمَر)؛ بفتح الميمين: هو عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المقعد البصري، المتوفى بها سنة أربع وعشرين ومئتين، وقد سبق في باب (قوله عليه السَّلام: «اللهم علمه الكتاب») (قال: حدثنا عبد الوارث) هو ابن سعيد بن ذكوان التميمي العنبري أبو عبيدة البصري، المتوفى بها في المحرم سنة ثمانين ومئة، تقدم أيضًا في هذا الباب (قال: حدثنا يونس) هو ابن عبيد -بالتصغير- ابن دينار، أبو عبد الله البصري، المتوفى سنة تسع وثلاثين ومئة، (عن حُميد)؛ بِضَمِّ الحاء، تصغير الحمد (بن هِلَال)؛ بكسرالهاء، وتخفيف اللَّام: العدوي البصري، التَّابعي الجليل، لم يفضلوا عليه أحدًا في العلم في زمانه، (عن أبي صالح) هو ذكوان السَّمان التَّابعي المدني: (أن أبا سعيد) هو سعد بن مالك الخدري، الصَّحابي الجليل، (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم).
(ح) : مهملة، إشارة إلى التحويل من إسناد إلى إسناد آخر قبل ذكر الحديث، وعلامته حرف الحاء المهملة المفردة، وهي ساقطة في «اليونينية»، ولا يضر في التحويل كون المحول إليه فيه زيادة قصة، والتفاوت بين الإسنادين أن الأول فيه: (عن أبي صالح أن أبا سعيد)، والثاني: (قال أبو صالح: رأيت أبا سعيد)، والثاني أقوى، فإن الاعتبار بالحديث، ولا تفاوت فيه بينهما، وقد ساق البخاري هذا الحديث في (بدء الخلق) بالإسناد الذي ساقه هنا من رواية يونس بعينه، وههنا من لفظ سليمان لا من لفظ يونس، كذا في «عمدة القاري» مع تغيير؛ فافهم.
(قال: حدثنا آدم)؛ بهمزة ممدودة، ولأبي الوقت: (آدم بن أبي إياس) هو العسقلاني (قال: حدثنا سليمان بن المُغيرة)؛ بِضَمِّ الميم: هو القيسي البصري، قال إمام الشَّارحين: (ولم يخرج المؤلف لسليمان شيئًا موصولًا غير هذا الحديث) انتهى.
وزعم ابن حجر أن لفظ الحديث في (بدء الخلق) مغاير لما هنا، وليس فيه تقييد الرفع بما إذا كان المصلي يصلِّي إلى سترة، والمطلق محمول على المقيد؛ لأنَّ المصلي إلى غير سترة مقصر لا سيما إن صلى في شارع المشاة، انتهى.
قلت: وفيه: أن ما هنا قصة غير القصة التي ذكرت في (بدء الخلق)، ولا يلزم الحمل المذكور؛ لأنَّ الرفع يطلب مطلقًا، ولو كان يصلِّي إلى غير سترة، كما إذا صلى في مكان ونسي أن يغرز سترة، أو صلى في مكان لا يظن فيه المرور، ثم جاء مار وأراد المرور؛ فليدفعه، فإنَّه في هذا غير مقصر؛ فليحفظ.
(قال: حدثنا حميد بن هلال) هو العدوي التَّابعي (قال: حدثنا أبو صالح السَّمان) هو المدني التَّابعي، ففي الإسنادين رواية تابعي عن تابعي عن صحابي (قال: رأيت) أي: أبصرت (أبا سعيد الخدري) هو سعد بن مالك، الصَّحابي الجليل المشهور رضي الله عنه، والمفعول الثاني هو قوله: (في يوم جمعة)، وقوله: (يصلِّي إلى شيء)؛ أي: عنزة ونحوها طول ذراع بغلظ إصبع (يستره من الناس)؛ أي: من مرورهم بين يديه، جملة محلها نصب على الحال، وهل هذه صلاة الجمعة أو غيرها؛ الظَّاهر: الثاني؛ كصلاة سنة الجمعة أو نفل أو غيرهما؛ لأنَّ صلاة الجمعة لا تؤدى إلا مع الإمام وهو يصلِّي في محرابه، وسترة الإمام سترة لمن خلفه، ويحتمل أنَّه كان يصلِّي في غير المسجد، وعلى كل حال؛ فهي غير صلاة الجمعة؛ فافهم، (فأراد شاب من بني أبي مُعَيْط)؛ بِضَمِّ الميم، وفتح العين المهملة، وسكون التحتية، آخره طاء مهملة، وأبو معيط في قريش، واسمه أبان بن أبي عمرو ذكوان بن أمية الأكبر، هو والد عقبة بن أبي مُعَيْط الذي قتله النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم صبرًا، و (مُعَيْط) : تصغير معط؛ وهو الذي لا شعر عليه، فالأمعط والأمرط سواء، قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».
واختلف في اسم الشاب المذكور على أقوال؛ أحدها: أنَّه الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط؛ لما في كتاب (الصلاة) للبخاري من طريق شيخه أبي نعيم عن زيد بن أسلم قال: (بينما أبو سعيد قائمًا يصلِّي في المسجد، فأقبل الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط، فأراد أن يمر بين يديه، فدفعه، فأبى إلا أن يمر، فدفعه).
الثاني: أنَّه عبد الرحمن بن الحارث بن هشام؛ لما في «مصنف ابن أبي شيبة» من طريق أبي معاوية، عن عاصم، عن ابن سيرين قال: (كان أبو سعيد قائمًا يصلِّي، فجاء عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يمر بين يديه، فمنعه فأبى إلا أن يجيء، فدفعه أبو سعيد فطرحه، فقيل له: تصنع هذا بعبد الرحمن؟ فقال: والله لو أبى إلا أن آخذ بشعره؛ لأخذت).
الثالث: أنَّه داود بن مروان؛ لما رواه عبد الرزاق من طريق سليمان بن موسى، ولفظه: (أراد داود بن مروان أن يمر بين يدي أبي سعيد، ومروان يومئذ أمير بالمدينة...)؛ فذكر الحديث، وبه جزم ابن الجوزي، وروى عبد الرزاق الحديث، عن معمر، عن زيد بن أسلم، وقال فيه: (فذهب ذو قرابة لمروان)، ومن طريق أبي العلاء فيه عن أبي سعيد، فقال فيه: (مَرَّ رجلٌ بين يدي أبي سعيد من بني مروان)، وللنسائي من وجه آخر: (فمر ابن لمروان).
ثم قال إمامنا الشَّارح بعد أن ساق الطرق: (والأحسن أن يقال بتعدد الواقعة لأبي سعيد مع غير واحد؛ لأنَّ في تعيين واحد من هؤلاء مع كون اتحاد الواقعة نظرًا لا يخفى) انتهى.
وتبعه ابن حجر وغيره، ونظر ابن حجر في القول الأول: بأن في الحديث: (أنه دخل على مروان)، وزاد الإسماعيلي: (ومروان يومئذٍ أمير على المدينة)، ولم يكن مروان أميرًا على المدينة إلا في خلافة معاوية، ولم يكن الوليد يومئذ فيها، وأيضًا لم يكن الوليد يومئذ شابًّا، بل في عشر الخمسين، فلعله كان فيه، فأقبل ابن للوليد بن عقبة فيتجه، وقال في الثالث: وفيه نظر؛ لأنَّ فيه أنَّه من بني أبي معيط وليس مروان من بنيه، بل أبو معيط ابن عم (١) والد مروان، لكن يحتمل أن داود نسب إلى ابن معيط من جهة الرضاعة، أو لكون جده لأمه عثمان بن عفان كان أخا الوليد بن عقبة لأمه، فنسب داود إليه مجازًا، وفيه بعد، والأقرب أن الواقعة تعددت لأبي سعيد مع غير واحد، انتهى.
قلت: وفيما قاله نظر؛ لأنَّ قوله: (ولم يكن مروان
(١) في الأصل: (عمر)، وهو تحريف.