للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

فيه ظاهر، وهو عدم صحة المعنى؛ لأنَّ الشروع في إفراغ الماء لأجل الغسل كما هنا، أو غيره التهيُّؤ لذلك من خلع الثياب ونحوها، والصب: كفاء الماء من الإناء، فلا يجوز لمن شرع في إفراغ الماء أن يقال فيه: صبه؛ لاختلاف المعنى، وهذا ظاهر، كما لا يخفى.

وقوله: (نعم؛ في قول ابن حجر....) إلخ هذا اعتراض من العجلوني عليه؛ لأنَّ هذه العبارة المفقودة الغائرة ذكرها في شرحه، لكنها غير صحيحة، وكيف يكون وقع الكشف قبل الوضع مؤاخذة مع أنَّه صرحت في الحديث أنَّ الوضع قبل الكشف، فكلامه مصادم للحديث، ولا وجه له أصلًا وعلى كلامه، فالكشف على من وقع وأين الماء الموضوع؟ وما هو إلا لقلقة لسان.

وقوله: (وكأنَّ ابن حجر...) إلخ؛ فإنَّه قد اعترض على الكرماني، واختلط عليه الكلام في عود الضمير إمَّا على الماء، أو على النبيِّ عليه السلام مع أنَّه في أول كلامه جزم بأنَّه يعود على الماء، فخبط هذا الخبط.

وقوله: (وكذا قوله والأخذ...) إلخ هذا كلام من لم يدر شيئًا من معاني التركيب، فكيف يكون الأخذ عين الصب وبينهما فرق ظاهر لا يخفى؟ وما هذا إلا معنًى فاسد.

وقوله: (لأنَّ الصب...) إلخ، فإنَّه إذا أراد الصب؛ أخذ الإناء وكفئه، فالصب غير الأخذ لا عينه لا محالة.

وقوله: (لا داعي...) إلخ، بل هو ممنوع؛ لأنَّه لا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، وهذا غير متعذر، فيتعين الكلام على الحقيقة، وهذا دأب ابن حجر وضع الكلام في شرحه بلا معنًى ولا فائدة، وقد بين ذلك في «إيضاح المرام»، ولو ذكرناه؛ لطال المقام؛ فيراجع.

وقوله: (مرة أو مرتين) متعلق بـ (غسلها)، والشك فيه من أبي عوانة، وهو القائل: (قال سليمان) هو ابن مهران الأعمش: (لا أدري أذكر)؛ أي: سالم بن أبي الجَعْد شيخ الأعمش (الثالثة)؛ أي: الغسلة الثالثة (أم لا؟)، وقد مر في رواية عبد الواحد، عن الأعمش: (فغسل يديه مرتين أو ثلاثًا)، ولابن فضيل عن الأعمش: (فصب على يديه ثلاثًا) ولم يشكَّ، أخرجه أبو عَوانة في «مستخرجه»، فكأن الأعمش كان يشك فيه، ثم ذكر فجزم؛ لأنَّ سماع ابن فضيل منه متأخر، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري»، (ثم أفرغ) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم الماء (بيمينه على شماله) ففيه المطابقة للترجمة، كما لا يخفى، (فغسل فرجه) المراد به: القبل والدبر، (ثم دلك يده)؛ بالإفراد، وهي التي استنجى بها (بالأرض أو بالحائط) الظاهر: أنَّ الشك فيه من ميمونة، ويحتمل غيرها، وهناك: (فغسل مذاكيره، ثم مسح يده بالأرض) من غير شك، وذلك لأذًى من مني ونحوه عليها، وهناك: (ثم غسلها)؛ أي: اليد بالماء؛ ليكون الغسل أطهر وأنقى؛ لأنَّ المني لزج، فيحتمل لصوق شيء منه، (ثم تمضمض)؛ بفوقية أوله لغير الأَصيلي، وله بحذفها، كما هناك (واستنشق)؛ لأنَّهما من تمام غسل البدن، (وغسل وجهه) وأصول لحيته، (ويديه)؛ أي: الذراعين، (وغسل رأسه) وأصول شعره، وأتى بـ (الواو) للإشارة إلى عدم وجوب الترتيب؛ لأنَّ الواو لمطلق الجمع عند أهل اللغة، فهذا يعم التقديم والتأخير، وفيه: دليل واضح إلى أنَّ الترتيب في الوضوء غير شرط، وهو مذهب الجمهور خلافًا لطائفة، (ثم صب) أي: الماء (على جسده)؛ أي: كله وقدم أعضاء الوضوء؛ ليتفقد ما فيها مما يمنع وصول الماء إلى الجسد خصوصًا المضمضة والاستنشاق، ولشرفها، وهناك: (ثم أفاض على جسده)، (ثم تَنَحَّى)؛ بفوقية أوله، بعدها نون مفتوحتين، آخره مهملة، وهناك: (ثم تحول من مكانه)؛ أي: تباعد عن المكان الذي اغتسل فيه إلى مكان آخر، (فغسل)؛ بالفاء للأكثر، ولأبي ذر بالواو (قدميه)؛ أي: رجليه؛ تحرُّزًا عن الماء المستعمل، قالت ميمونة: (فناولته خِرقة)؛ بكسر الخاء المعجمة، واحدة الخروق، وذلك لأجل أن يتنشف بها، (فقال) أي: أشار من إطلاق القول على الفعل، كما قدمناه (بيده)؛ بالإفراد (هكذا)؛ أي: لا أتناولها؛ لما رأى عليها من وسخ، أو لاستعجاله إلى القيام إلى الصَّلاة، أو لأجل بقاء أثر العبادة أو غير ذلك، فقولها: (ولم يُرِدْها)؛ بضمِّ المثناة التحتية، من الإرادة لا من الرد، فهو تأكيد وهو مجزوم بالسكون، وحذفت الياء؛ لالتقاء الساكنين لا مجزوم بحذف الياء، كما توهمه القسطلاني.

قال إمام الشارحين: (وحكى «المطالع» : أن «لم يردَّها» بالتشديد رواية ابن السكن، ثم قال: وهو وهم؛ لأنَّ المعنى يفسد حينئذ، وقد رواه الإمام أحمد عن عفان، عن أبي عَوانة بهذا الإسناد، وقال في آخره: «فقال هكذا، وأشار بيده أن لا أريدها»، وفي رواية أبي حمزة، عن الأعمش: «فناولته ثوبًا، فلم يأخذه») انتهى كلام «عمدة القاري».

قلت: وفي الحديث: دليل على وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل، وفيه: دليل على أنَّ الماء المستعمل نجس، وفيه: جواز خدمة الزوجات للأزواج، وفيه: استحباب تغطية الماء، وفيه: تقديم الاستنجاء، وفيه: رد المنديل لمانع مما سبق، فقد ورد عن قَيْس بن سعد: (أنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم اغتسل، فأتيناه بملحفة، فالتحف بها).

قلت: والظاهر: أنَّ الملحفة هو الحرام الذي يلتحف به لا المنديل؛ فافهم، والله أعلم.

(١٢) [باب إذا جامع ثم عاد ومن دار على نسائه في غسل واحد]

هذا (بابٌ)؛ بالتنوين: (إذا جامع)؛ أي: المجامع امرأته أو أمته، كما للكشميهني، (ثم عاد) أي: إلى جماعها مرة أخرى، وجواب (إذا) محذوف؛ تقديره: ما يكون حكمه، وهو أولى من تقدير: جاز؛ لأنَّ عادة المؤلف أنَّه يطلق الترجمة، ويحيل الحكم على الأحاديث التي (١) تُذكر تحت الترجمة، كما لا يخفى؛ فافهم، وفي رواية الكشميهني: (عاود)؛ من المعاودة؛ أي: جامع مرة أخرى، (ومن دار) عطف على قوله: (إذا جامع)؛ أي: باب من دار؛ بالدالة المهملة: من الدوران (على نسائه في غُسل) بضمِّ الغين المعجمة (واحد) وجواب (من) محذوف أيضًا؛ تقديره: ما يكون حكمه، وهو أولى، وقد رجع العجلوني هنا إليه بعد أن ادَّعى في الأولى أنَّ الجواز أولى، وليس كذلك، كما علمت؛ فافهم.

وزعم ابن حجر أنَّ (عاد) أعم من أن يكون في ليلة أو غيرها، ورده صاحب «عمدة القاري» بأن الجماع في غير ليلة جامع فيها لا يسمى عودًا لا لغة ولا عرفًا، والمراد ههنا: أن يكون الابتداء والعود في ليلة واحدة أو يوم واحد، والدليل عليه حديث رواه أبو داود والنسائي عن أبي رافع: (أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم طاف ذات يوم على نسائه يغتسل عند هذه، وعند هذه، قال: فقلت: يا رسول الله؛ ألا تجعله غُسلًا واحدًا، قال: «هذا أزكى وأطيب»)، زاد في رواية: (وأطهر) انتهى.

وقد رمرم العجلوني على زعمه عبارة ابن حجر بما لا يخفى فساده، وزعم أنَّ في كلام «عمدة القاري» نظر، ولم يبيِّن وجهه، بل أحال ما ادَّعاه على اللغة والعرف، وزعم أنَّ الحديث واقعة حال فعلية لا تقتضي قصر الحكم عليها.

قلت: وهو ممنوع، فإنَّ الحديث ظاهر فيما قاله صاحب «عمدة القاري»، وهو عام يدل على أنَّ ذلك عادته عليه السلام، فهو يقتضي أنَّ جميع فعله هكذا، يدل لهذا قوله في الحديث: «هذا أزكى، وأطيب، وأطهر»، ومبنى هذا الفعل على السرور والصفا، كما لا يخفى على أهل الوفا، فما زعمه هذا الزاعم تعصب مردود؛ فافهم.

قال في «عمدة القاري» : فإن قلت: ظاهر هذا الحديث- أي: حديث أبي رافع- يدل على أنَّ الاغتسال بين الجماعين واجب؟ قلت: أجمع العلماء على أنَّه لا يجب بينهما، وإنَّما هو مستحب حتى إنَّ بعضهم استدل بهذا على استحباب الحديث؛ أي: بين الجماعين، على أنَّ أبا داود لمَّا روى هذا الحديث؛ قال: حديث أنس أصح من هذا، وحديث أنس رضي الله عنه رواه أبو داود أيضًا عنه قال: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يطوف على نسائه في غسل واحد)، ورواه الترمذي أيضًا، وقال: حديث صحيح، وضعف ابن القطان حديث أبي رافع، وصححه ابن حزم، وعبارة أبي داود أيضًا تدل على صحته.

وأمَّا الوضوء بين الجماعين؛ فقد اختلفوا فيه؛ فعند الجمهور ليس بواجب، وقال ابن حبيب المالكي وداود الظاهري: إنَّه واجب.

قال ابن حزم: وهو قول عطاء، وإبراهيم، وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، واحتجوا بحديث أبي سَعِيْد قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود؛ فليتوضأ بينهما وضوء»، أخرجه مسلم من طريق حفص، عن عاصم، عن أبي المتوكل عنه، وحمل الجمهور الأمر بالوضوء على الندب


(١) في الأصل: (الذي)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>