للمشروب.
فإن قلت: إذا ثبت أنَّ الحلاب اسم للإناء؛ فالمذكور في الترجمة شيئان؛ أحدهما: الإناء، والآخر: الطيب، وليس في حديث الباب ذكر الطيب، فلا يطابق الحديث الذي فيه إلا بعض الترجمة؟
قلت: قد عقد الباب؛ لأحد الأمرين حيث جاء بـ (أو) الفاصلة دون (الواو) الواصلة، فوفى بذكر أحدهما على أنَّه كثيرًا يذكر في الترجمة شيئًا ولا يذكر في الباب حديثًا متعلقًا به لأمر يقتضي ذلك.
فإن قلت: ما المناسبة بين ظرف الماء والطيب؟
قلت: من حيث أنَّ كلًّا منهما يقع في مبدأ الغسل، ويحتمل أيضًا أنَّه أراد بالحلاب: الإناء الذي فيه الطيب؛ يعني به: تارة يطلب ظرف الطيب، وتارة يطلب نفس الطيب، كذا قاله الكرماني، ولكن يرد عليه ما رواه الإسماعيلي من طريق مكي بن إبراهيم عن حنظلة في هذا الحديث: (كان يغتسل بقدح) بدل قوله: (بحلاب)، وزاد فيه: (كان يغسل يديه، ثم يغسل وجهه، ثم يقول بيديه ثلاث غرف) انتهى كلام «عمدة القاري» رحمه الله تعالى.
[حديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب]
٢٥٨ - وبه قال: (حدثنا)؛ بالجمع، وفي رواية: بالإفراد (محمَّد بن المثنى)؛ بالمثلثة، البصري (قال: حدثنا أبو عاصم) : هو الضحاك بن مَخْلد؛ بفتح الميم، وسكون الخاء المعجمة، البصري المتفق عليه علمًا وعملًا، ولُقِّب بالنبيل؛ لأنَّ شعبة حلف أنَّه لا يحدث شهرًا، فبلغ ذلك أبا عاصم، فقصده فدخل مجلسه، وقال: حدث وغلام العطار حرٌّ عن كفارة يمينك فأعجبه ذلك، وقال: أبو عاصم النبيل، فلقِّب به، وهو من كبار شيوخ المؤلف، وقد أكثر عنه في هذا الكتاب، لكنه نزل في هذا الإسناد، فأدخل بينه وبينه محمَّد بن المثنى، كذا قاله في «عمدة القاري»، (عن حنظلة)؛ بالحاء المهملة أوله: هو ابن أبي سفيان القرشي، (عن القاسم) : هو ابن محمَّد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه التيمي المدني، أفضل أهل زمانه، كان ثقةً عالمًا فقيهًا من الفقهاء السبعة بالمدينة، إمامًا ورعًا من خيار التابعين، المتوفى سنة بضع ومئة، (عن عائشة) : أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أنَّها (قالت: كان النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم إذا اغتسل)؛ أي: إذا أراد أن يغتسل (من الجنابة دعا)؛ أي: طلب ماء (بشيء نحو الحِلاب)؛ بكسر الحاء المهملة؛ أي: إناء مثل الإناء الذي يسمى الحلاب، وقد وصفه أبو عاصم: بأنَّه أقل من شبر في شبر، أخرجه أبو عَوانة في «صحيحه» عنه، وفي رواية لابن حبان: (وأشار أبو عاصم بكفيه يصف به دوره الأعلى)، وفي رواية للبيهقي: (كقدر كوز يسع ثمانية أرطال)، وفي حديث مكي عن القاسم: (أنَّهسئل كم يكفي من غسل الجنابة؟ فأشار إلى القدح والحلاب)، ففيه: بيان مقدار ما يحمل من الماء لا الطيب والتطيب، ومن له ذوق من المعاني وتصرف في التراكيب؛ يعلم أنَّ الحلاب المذكور في الترجمة إنَّما هو الإناء، ولم يقصد البخاري إلا هذا غير أنَّ القوم أكثروا الكلام فيه من غير زيادة فائدة، ولفظ الحديث أكبر شاهد على ما ذكرنا؛ لأنَّه قال: (دعا بشيء نحو الحلاب)، فلفظ (نحو) ههنا بمعنى: المثل، ومثل الشيء: غيره، فلو كان دعا بالحلاب؛ كان ربما يشكل، على أنَّ في بعض الألفاظ: (دعا بإناء مثل الحِلاب)، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري»؛ فليحفظ، (فأخذ) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (بكفه)؛ بالإفراد، وفي رواية الكشميهني: (بكفيه)؛ بالتثنية، وكذا وقع في رواية مسلم بعد قوله: (الأيسر)، وكذا وقع في رواية أبي داود؛ أي: من الماء الذي في الإناء الذي يسمى الحلاب، وهذا هو المعنى الصحيح، وزعم العجلوني أنَّ المراد بالحلاب: الطيب، فيكون (فأخذ)؛ أي: من الطيب الذي في الإناء.
قلت: وهو فاسد، فأي معنى لوضع الطيب في الإناء؟ على أنَّ (١) الطيب إنَّما يستعمل بعد الغسل لا قبله، وهنا يكون الغسل بعد التطيُّب فلا فائدة فيه، ولا ثمرة تحويه؛ فافهم.
(فبدأ بشِق) بكسر الشين المعجمة (رأسه الأيمن) : وهو القوذ الأيمن؛ لأنَّ الرأس أربع قطع: الناصية، والقذال، والقوذان، (ثم) بشق رأسه (الأيسر) : وهو القوذ الأيسر، فغسلهما بالماء، (فقال بهما)؛ أي: بكفيه، وهذا يدل على أنَّ الرواية الصحيحة: (فأخذ بكفيه)؛ بالتثنية حيث أعاد الضمير بالتثنية، وأمَّا على رواية مسلم؛ فظاهر؛ لأنَّه زاد في روايته بعد قوله: (الأيسر فأخذ بكفيه)، والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال وتطلقه أيضًا على غير الكلام، فتقول: قال بيده؛ أي: أخذ، وقال برجله؛ أي: مشى، قال الشاعر:
وقالت له العينان سمعًا وطاعة....
أي: أومأت.
وجاء في حديث آخر: (فقال بثوبه)؛ أي: رفعه، وكل ذلك على المجاز بالاتساع، ويقال: إنَّ (قال) يجيء لمعان كثيرة بمعنى: أقبل، ومال، واستراح، وذهب، وغلب، وأحب، وحكم. تقول: أخذ العصا وقال به كذا؛ أي: ضرب، وأخذ ثوبه وقال به عليه؛ أي: لبسه، وغير ذلك، كذا في «عمدة القاري»، ومعنى (قال بهما) : أي: قلب بكفيه الماء (على وسط رأسه) والجار والمجرور متعلق بـ (قال)، وسقط في رواية لفظ: (وسط)، قال في «عمدة القاري» : (بفتح السين)، وقال الجوهري: (بالسكون ظرف، وبالحركة اسم، وكل موضع صلح فيه (بين)؛ فهو بالسكون، وإن لم يصلح فيه؛ فهو بالتحريك)، وقال المطرزي: سمعت ثعلبًا يقول: استنبطنا من هذا الباب: أنَّ كل ما كان أجزاء تنفصل.
قلت: فيه (وسْط) بالتسكين، وما كان لا ينفصل، ولا يتفرق.
قلت: بالتحريك تقول من الأول: اجعل هذه الخرزة وسط السبحة، وانظم هذه الياقوتة وسط القلادة، وتقول أيضًا: لا تقعد وسط الحلقة ووسط القوم، هذا كله يتجزأ، ويتفرق، وينفصل، فتقول فيه بالتسكين، وتقول في القسم الثاني: احتجم وسط رأسه، واقعد وسط الدار، وقس على هذا، انتهى، ثم قال: ومما يستنبط من الحديث: أنَّ المغتسل يستحب له أن يجهز الإناء الذي فيه الماء؛ ليغتسل منه، وفيه أنَّ قولها: (كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم) دليل على مداومته على ذلك؛ لأنَّ هذه اللفظة تدل على الاستمرار والدوام، ويستحب للمغتسل أن يبدأ بشقه الأيمن، ثم بالشق الأيسر، ثم على وسط رأسه، انتهى.
قلت: وهذا قول شمس الأئمَّة الحلواني من الأئمَّة الحنفية، ومشى عليه في «تنوير الأبصار والدرر والغرر» قائلًا: (هو الأصح)، وقدمنا أنَّ الصحيح أنَّه يبدأ بالرأس، فينبغي للمغتسل أن يفعل مرة هكذا، ومرة هكذا؛ ليكون فعله موافقًا لحديث الباب، ولما سبق من الأحاديث، والله أعلم.
وزعم ابن حجر أنَّ المراد بـ (الطيب) في الترجمة الإشارة إلى حديث عائشة أنَّها كانت تطيِّب النبيَّ عليه السلام عند الإحرام، والغسل من سنن الإحرام، فكان الطيب حصل عند الغسل.
قال: ويقويه تبويب البخاري بعد سبعة أبواب بـ (باب من تطيب ثم اغتسل)، وساق حديث: (أنا طيَّبت رسول الله عليه السلام، ثم طاف في نسائه، ثم أصبح محرمًا)، فعلى هذا؛ فقوله: (من بدأ بالحلاب)؛ أي: بالطيب عند إرادة الغسل، قال: (وهذا أحسن الأجوبة) انتهى.
قلت: وهذا ليس بشيء، فإنَّ قوله: (إنَّ المراد...) إلخ بعيد؛ لأنَّ عادة المؤلف يذكر الترجمة، ويستدل لها بحديث فأكثر، فلا يلزم أن يشير في ترجمة باب على حدة إلى حديث آخر مذكور في باب آخر هذا بعيد جدًّا، على أنَّ حديث عائشة إنَّما هو في حال الإحرام، وهنا في غسل الجنابة، كما صرح به الحديث، فإنَّ حال الإحرام لا يقاس على حال الإحلال، فإنَّه قياس مع الفارق؛ لأنَّ حال الإحرام يحرم التطيُّب، فيلزم ذلك قبل الغسل للسنَّة، والغسل وإن كان من سنن الإحرام لكنه ممنوع من التطيب بعد الغسل.
وقوله: (ويقويه...) إلخ؛ هذا ليس بشيء أيضًا؛ لأنَّ تبويب البخاري مخصوص لحكم التطيب قبل غسل الإحرام، وسياق الحديث يدل عليه، فهذا ليس له فائدة هنا؛ لأنَّ كل ترجمة وأحاديثها مخصوصة بحكمها لا تعلق لها بأحاديث أخرى مذكورة في باب آخر.
وقوله: (فعلى هذا...) إلخ؛ بعيد جدًّا، أما سمعت قول الإسماعيلي سبق لقلب البخاري أنَّ الحلاب طيب، وأي معنى للطيب عند الاغتسال قبل الغسل؟
وقول ابن الأثير: لأن يستعمل الطيب بعد الغسل أليق منه قبل الغسل؛ لأنَّه إذا بدأ به ثم اغتسل؛ أذهبه الماء؛ فلا فائدة له
(١) في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.