للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

مقابل ظهره، وفي رواية مسلم: (ولا يستدبرها ببول أو غائط) وهو عام فيشمل الصحارى والبنيان، فلذا قال إمامنا الإمام الأعظم: يكره تحريمًا استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط مطلقًا؛ أخذًا بعموم الحديث، وهو مذهب مجاهد، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وأبي ثور، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب الراوي أبي أيوب، وهو حجة على الشافعي في إباحته بالبنيان؛ لأنَّ المنع لأجل تعظيم القبلة، وهو موجود في الصحارى والبنيان، فالجواز في البنيان إن كان لوجود الحائل؛ فالحائل موجود أيضًا في الصحارى كالجبال والأودية لا سيما عند من يقول بكروية الأرض، فإنَّه لا موازاة إذ ذاك بالكلية، ولأنَّ المصلي في البيت يعتبر مستقبل القبلة ولا تجعل الحائط حائلًا، فكيف إذا كشف العورة في البيت لا تجعل الحائط حائلًا؟! وما ذاك إلا مخالفة للنص، ويستثنى من المنع ما لو كانت الريح تهب عن يمين القبلة أو شمالها، فإنَّهما لا يكرهان للضرورة، وإذا اضطر إلى أحدهما ينبغي أن يختار الاستدبار، لأنَّ الاستقبال أقبح فتركه أدل على التعظيم، كذا في «شرح النقاية» وبه قال الشافعي.

وكذا يكره إمساك صبي نحو القبلة للبول؛ لأنَّ كل ما كره فعله لبالغ كره أن يفعله بصغير، والنهي مخصوص بخروج الغائط والبول لا بكشف العورة، فلو استقبلها لأجل التطهير، أو حال الجماع، أو حال خروج الدم، أو الريح أو غيرها؛ فلا يكره تحريمًا؛ بل يندب تركه؛ لأجل التعظيم، كما نصَّ عليه ابن أمير حاج في «الحلية»، والتمرتاشي في «شرح الجامع الصغير»؛ فليحفظ.

ولو اشتبهت عليه القبلة؛ استظهر في «منهل الطلاب» تبعًا لشيخ شيخه أنَّه يلزمه.

وإذا جلس مستقبلًا أو مستدبرًا للقبلة غافلًا فتذكر؛ فإنَّه ينحرف عنها ندبًا إجلالًا لها إن أمكن، وإلا فلا بأس به؛ لحديث الطبري: «من جلس يبول قبالة القبلة فذكرها فانحرف عنها إجلالًا لها؛ لم يقم من مجلسه حتى يغفر له»، كذا في «إمداد الفتاح» و «الدر المختار»، والمراد: أنَّه ينحرف بجملته أو بقلبه حتى يخرج عن جهتها، والكلام في الإمكان فليس في الحديث دلالة على أنَّ المنهي عنه استقبال العين، كما لا يخفى.

لكن قال بعضهم: ورأيت في «التبيين» ما يفيد أنه يكفي في ذلك الانحراف اليسير؛ فتأمل، وقيد الإجلال لا بد منه في المغفرة، وبحث في «النهر» وجوبه، وقال في «النهاية» : فإن لم يفعل؛ لم يكن به بأس، انتهى.

قال الحلبي: وكأنَّه لم يجب؛ لأنَّه وقع معفوًا عنه للسهو وهو فعل واحد، انتهى، والمراد غفران ما شاء الله من ذنوبه الصغائر، وقول «النهاية» : لا بأس به؛ المراد: نفي الكراهة أصلًا، ويحتمل أنَّ المعنى: وإن لم ينحرف مع الإمكان فلا بأس به، وحينئذٍ فالمراد به خلاف الأولى كما هو الشائع في استعماله، ولعلَّه جرى على الرواية الأخرى؛ لأنَّه روي عن الإمام الأعظم روايات؛ أحدها: المنع مطلقًا، وهو ظاهر الرواية عنه وعليه الفتوى، والثانية: الإباحة مطلقًا، والثالثة: كراهة الاستقبال فقط، والرابعة: كراهة الاستدبار أيضًا إلَّا إذا كان ذيله مرخيًّا، كذا في «منهل الطلاب».

(شَرِّقوا أو غَرِّبوا)؛ بفتح أولهما المعجم، وتشديد ثانيهما المكسور؛ أي: لكن خذوا إلى جهة المشرق أو المغرب، وهو جواب سؤال نشأ عن النهي المذكور، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، قيل: الخطاب لأهل المدينة ولمن كانت قبلته على ذلك السمت، فأما من قبلته إلى جهة المشرق أو المغرب؛ فإنه لا يشرِّق ولا يغرِّب.

وقيل: إنَّما ذلك في المدينة وما أشبهها كأهل الشام واليمن، وأما من كانت قبلته إلى جهة المشرق أو المغرب؛ فإنَّه يتيامن أو يتشاءم، وقيل: البيت قبلة لمن في المسجد، والمسجد قبلة لأهل مكة، ومكة قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لسائر أهل الأرض، وقالوا: ما بين المشرق والمغرب قبلة فيما يحازي الكعبة أنَّه يصلي إليه من الجهتين ولا يشرق ولا يغرب يحازي كل طائفة الأخرى في هذا، وأخرج ابن ماجه وأبو داود عن معقل بن أبي معقل: أنَّه نهى النبيُّ عليه السلام أن يستقبل القبلتين ببول أو غائط، وأراد بالقبلتين الكعبة وبيت المقدس، فالنهي إمَّا لاحترام بيت المقدس؛ حيث كان قبلة لنا مرة، أو يكون ذلك من أجل استدبار الكعبة؛ لأنَّ من استقبله فقد استدبر الكعبة، وصرح في «منهل الصلاح» : بكراهة استقبال بيت المقدس، وبه قال إبراهيم، وابن سيرين، وبعض الشافعية، فما قاله الخطابي من دعوى الإجماع على عدم الكراهة؛ خطأ.

وقال مالك والشافعي: إنَّه يحرم الاستقبال والاستدبار في الصحراء دون البنيان؛ لحديث ابن عمر الآتي وحديث جابر: (نهانا رسول الله عليه السلام أن نستقبل القبلة أو نستدبرها ببول، ثم رأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها) أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، فدل حديث ابن عمر على جواز الاستدبار في الأبنية، وحديث جابر على جواز الاستقبال، ورُدَّ بأن حديث ابن عمر محمول على الخصوصية بالنبي الأعظم عليه السلام، ولأنَّه يحتمل أنَّه رآه حال الاستنجاء، والدليل إذا كان محتملًا يسقط الاستدلال به، كما سيأتي.

وأمَّا حديث جابر؛ فقال ابن حزم: إنَّه ضعيف؛ لأنَّه رواه أبان بن صالح، وهو ليس بمشهور، وقال أحمد ابن حنبل وأبو عمرو: إن حديث جابر ليس بصحيح؛ لأنَّ أبان ضعيف، وقول الحاكم: إنَّه صحيح على شرط مسلم؛ مردود؛ لأنَّ أبان -راويه عن مجاهد عن جابر- لم يخرج له مسلم شيئًا، والحديث حديثه وعليه يدور، وزعمهم بأن حديث جابر ناسخ لحديث الباب خطأ مردود؛ لأنَّ حديث أبي أيوب صحيح، وحديث جابر ضعيف، فكيف ينسخ الضعيف الصحيح؟! هذا لا يقوله عاقل على أنَّه لا يصار إلى الحديث الضعيف إلَّا عند تعذُّر الجمع بينهما، وهو ممكن هنا كما سيأتي، على أنَّه محمول على أنَّه رآه في بناء أو نحوه؛ لأنَّ ذلك هو المعهود من حاله عليه السلام لمبالغته في التستر، ولعلَّه رآه حال الاستنجاء وهو محتمل فيسقط الاستدلال به.

واستنبط ابن التين من الحديث منع استقبال النَّيِّرين في حالة الغائط والبول، وكأنَّه قاسه على الاستقبال، وليس القياس بظاهر، وإن كان الحكم كذلك فقد نص أئمتنا على كراهة استقبالهما؛ أي: عين الشمس والقمر احترامًا لهما؛ لأنَّهما آيتان عظيمتان من آيات الله كما في «الإمداد»؛ أي: لأجل بول أو غائط، كما في «الدر»، ومفاده: أنَّه لو كان الاستقبال لأجل التطهير؛ لا يكره، كما قدمناه، وإطلاق الكراهة يقتضي التحريم واقتصارهم على الاستقبال يفيد أنَّه لا يكره الاستدبار، كذا قاله بعضهم، واستظهر شيخ شيخنا أنَّ الكراهة هنا للتنزيه؛ لأنَّه لم يرد فيه نهي، لكن سيدي العارف الشيخ عبد الغني النابلسي نقل أنَّه لا يقعد مستقبلًا ولا مستدبرًا لهما؛ للتعظيم، انتهى.

فهذا يفيد كراهة استدبارهما حال قضاء الحاجة وهو الظاهر، والمراد أنَّه يكره استقبال عينهما مطلقًا سواء كان في الصحراء أو في البنيان لا جهتهما ولا ضوئهما، وأنَّه لو كان ساتر يمنع عن العين ولو سحابًا فلا كراهة كما في «شرح مقدمة أبي الليث»، والظاهر: أنَّ الكراهة إذا لم يكونا في كبد السماء، وإلا فلا استقبال للعين، وهذا كله مستفاد من قوله: (عين...) إلخ، مع صريح النقل في ذلك كذا في «منهل الطلاب».

(١٢) [باب من تبرز على لبنتين]

هذا (باب) حكم (من) موصولة وصلتها قوله: (تبرَّز)؛ بتشديد الرَّاء وبالزاي، من التبرز وهو التغوط، وأصل التبرز: الخروج إلى البَراز للحاجة، والبراز؛ بفتح الموحدة: اسم للفضاء الواسع من الأرض، فكنوا به عن حاجة الإنسان، (على لَبِنتين) تثنية لَبِنة؛ بفتح اللام وكسر الموحدة، ويجوز تسكينها مع فتح اللام وكسرها، ويجوز فيه الأوجه الثلاثة كـ (كتف)، وقال الجوهري:

<<  <   >  >>