للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

من غلظ الإصبع، بل غلظها بزيادة، وإطلاق السترة يفيد أن تكون تبدو للناظر ولا يبدو في أقل من ذلك، وهذا مذهب الإمام الأعظم ومالك، وهو حجة على الشَّافعي؛ حيث لم يشترط فيها عرضًا (١)، وهو شامل للخيط، وهو لا يسمى سترة شرعًا ولا لغةً ولا عرفًا؛ فافهم.

وقال الشَّافعي: لا بد أن تكون ثلثي ذراع فأكثر، وما رويناه حجة عليه؛ لأنَّ مؤخر الرحل أقل ما يكون ذراع كما ذكرنا.

وقال العلامة القهستاني: ويستتر بكل ما انتصب؛ كإنسان قائم أو قاعد أو دابة، وفي «القنية» : بظهر رجل لا بوجهه، وفي جنبه قولان، ولا يستر بامرأة غير محرم، واختُلف في المحارم، ولا يستر بنائم، ولا مجنون، ولا مأبون في دبره، ولا كافر، انتهى.

وسيأتي بيان دفع المار في بابه إن شاء الله تعالى.

(٩٦) [باب الصلاة بين السواري في غير جماعة]

هذا (باب) حكم (الصلاة) المفروضة في المسجد (بين السواري) أي: الأساطين والأعمدة (في غير جماعة) قيد بها؛ لأنَّه لا تكره الصلاة بين السواري إذا كان منفردًا اتفاقًا، أمَّا مع الجماعة؛ فمكروهة إذا كان بين الأساطين، وهو شامل لما إذا كان وحده بين الأساطين مقتديًا بالإمام، ولما إذا كان مع جماعة مقتدين بالإمام بين الأساطين، والإمام في الصورتين ليس معهم، بل إمَّا في محرابه أو في قبلة الحائط، أو في تجاه سارية، لكن ظاهر كلام إمام الشَّارحين وغيره أنَّ المنفرد وحده بين الأساطين مقتديًا بالإمام الذي في محرابه ونحوه لا كراهة فيه؛ حيث قال: يعني: إذا كان منفردًا؛ لا بأس بالصلاة بين الساريتين إذا لم يكن في جماعة، انتهى.

فهذا كما رأيت يشير إلى أنَّه لا كراهة في ذلك، فإنَّ كلامه جامع للصورتين الذين ذكرناهما، ومع هذا؛ فليس فيه ما يقتضي الكراهة كما سيأتي؛ لأنَّه اختلف في علة الكراهة؛ فقيل: إنَّ العلة النَّهي الوارد، وقال إمامنا الشَّارح: (قيد بـ «غير جماعة»؛ لأنَّ ذلك يقطع الصفوف، وتسوية الصفوف في الجماعة مطلوبة) انتهى، وقيل: إنَّ العلة أنَّ بين السواري محل وضع النعال، وقيل: إنَّ العلة كونه موضع مصلى مؤمني الجن، وقيل: خشية أن يمر مار بين يديه.

قلت: وهذه العلل دائرة مع المعلول، فالظَّاهر أنَّ المكروه صلاته وحده منفردًا بين السواري مقتديًا بالإمام، أمَّا مع جماعة مقتدين بين السواري بالإمام؛ فلا كراهة فيه، كما لا كراهة إذا كان منفردًا وحده بين الأساطين بصلاة نفسه، فالصور ثلاثة: واحدة مكروهة، والأخريان لا كراهة فيهما، كما لا يخفى.

[حديث: دخل النبي البيت وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة وبلال]

٥٠٤ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل) هو ابن سلمة المنقري البصري البدري الذي يقال له: التَّبوذكي (قال: حدثنا جُويرية (٢) بِضَمِّ الجيم مصغرًا: هو ابن أسماء الضبعي، واسمه واسم أبيه من الأعلام المشتركة بين الرجال والنساء، (عن نافع) هو مولى ابن عمر، روى عنه هنا بلا واسطة، ويروي عنه أيضًا بواسطة مالك بن أنس، (عن ابن عمر) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهماأنَّه (قال: دخل النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم البيت)؛ أي: الكعبة المشرفة، وفي رواية ابن عمر في باب (الأبواب والغلق للكعبة والمساجد) : (أن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم قَدِمَ مكة -أي: عام الفتح-، فدعا عثمان بن طلحة ففتح الباب، فدخل النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم)؛ أي: البيت (وأسامة بن زيد) هو خادمه، (وعثمان بن طلحة) هو الحجبي صاحب مفتاح البيت، وإنَّما أذن له بالدخول ودخل معه حتى لا يتوهم الناس عزله عن سدانة البيت، (وبلال) هو مؤذنه وخادم أمر صلاته، زاد في رواية الباب السَّابق: (ثم أغلق الباب)، وذلك لئلا يزدحم الناس عليه لتوفر دواعيهم على مراعاة أفعال النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ليأخذوها عنه كما شاهدوا، فهذه الرواية دلت على أنَّ الرواية هنا كذلك، ويدل عليه قوله: (فأطال)؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم المكث فيه لأجل الصلاة والدعوات، (ثم خرج)؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وأصحابه من البيت، ويستفاد التراخي من قوله: (فأطال)، فقوله: (ثم) : للتأكيد، وفي رواية الباب السَّابق: (فلبث فيه ساعة، ثم خرجوا).

وقوله: (وكنت)؛ بالواو في رواية الأصيلي وابن عساكر، وبحذفها في رواية أبي ذر وكريمة إلى قوله: (أين صلى) من مقول ابن عمر (أول الناس دخل) : جملة حالية، وكلمة (قد) مقدرة (على أَثَره)؛ بفتحتين؛ أي: على عقبه، وهي رواية «اليونينية»، وفي رواية: بكسرٍ فسكونٍ، ورواه الإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: (ثم خرج ودخل عبد الله على إثره أول الناس)؛ أي: دخولًا البيت، (فسألت بلالًا) أي: المؤذن: (أين صلَّى)؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؟ (قال)؛ أي: بلال، ولأبوي ذر والوقت: (فقال) : صلَّى (بين العمودين المقدمين) : وفي رواية الكشميهني: (المتقدمتين).

ومطابقته للتَّرجمة ظاهرة.

وفي الحديث: أنَّ الصلاة بين السواري للمنفرد غير مكروهة، وأمَّا مع الجماعة؛ فمكروهة كما بيَّنَّاه، وقال الرافعي: احتج البخاري بحديث ابن عمر عن بلال على أنَّه لا بأس بالصلاة بين الساريتين إذا لم يكن في جماعة، وأشار إلى أنَّ الأَولى للمنفرد أن يصلِّي إلى السارية، ومع هذه الأولوية فلا كراهة في الوقوف بينها، فأمَّا في الجماعة؛ فالوقوف بين الساريتين كالصلاة إلى السارية، انتهى.

واعترضه العجلوني بأنَّ فيه نظر؛ لورود النَّهي الخاص عن الصلاة بين السواري، كما رواه الحاكم من حديث أنس بإسناد صحيح، وهو في «السنن» الثلاثة، وحسَّنه الترمذي، انتهى.

قلت: حفظ هذا القائل شيئًا، وغاب عنه أشياء، فإنَّ حديث النَّهي المذكور محمول على ما إذا صلى وحده منفردًا بين السواري مقتديًا بالإمام، فصلاته مكروهة؛ لأنَّ ذلك يقطع الصفوف، وتسوية الصفوف في الجماعة مطلوبة، أمَّا إذا صلى منفردًا بين الساريتين بغير جماعة؛ فلا كراهة فيه، كما لا كراهة في صلاة المقتدين بين السواري بالإمام في محرابه، وهذا معنى كلام الرافعي، وقال ابن حبيب: ليس النَّهي عن تقطيع إذا ضاق المسجد، وإنَّما نهي عنه إذا كان المسجد واسعًا.

وقال مالك: لا بأس بالصلاة بين الأساطين لضيق المسجد، وكان سعيد بن جبيروإبراهيم التيمي وسويد بن غفلة يؤمون قومهم بين الأساطين، وهو قول الأئمة الكوفيين، وأجازه ابن سيرين والحسين.

وقال الطَّبري: كره قوم الصف بين السواري؛ للنَّهي الوارد، ومحل الكراهة عند عدم الضيق، والحكمة فيه إمَّا لأنَّه موضع النِّعال، أو لانقطاع الصف، وقال القرطبي: سبب كراهة ذلك أنَّه مصلى الجن المؤمنين.

وقال ابن بطال: إنَّما يكره أن يكون الصف تقطعه أُسطوانة إذا صلوا جماعة خشية أن يمر أحد بين يديه وإن كان الإمام سترة لمن خلفه، ويستحب أن تكون الأُسطوانة خلف الصف وأمامه يستتر


(١) في الأصل: (عرض)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (جويرة).

<<  <   >  >>