للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الكافر المعين؛ لا يجوز، فكيف بلعن المسلم الموحد لله الشاهد بالرسالة للنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، فإنَّ لعنه كبيرة من الكبائر، وكذلك لا يجوز لعنه بالدعاء من غير خطاب؛ لأنَّ اللعن: الطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى، ولا يستحق ذلك إلا من أشرك في الله تعالى، أمَّا المسلم؛ فلعنه حرام كبيرة تغمس صاحبها في جهنم؛ فانظر هذه الجرأة الوخيمة من هؤلاء الذين يستحقون من الله العذاب الأليم، وقد أعمى الله أبصارهم عن قوله تعالى في آية الحج: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ}، وعن قوله عليه السَّلام: (من استطاع منكم الحج ولم يحج، فإن شاء أن يموت يهوديًّا أو نصرانيًّا)، فإن الأئمة أجمعوا على أنَّ المراد به: التغليظ لا الكفر حقيقة، وما نحن فيه مثله، فإن مراده عليه السَّلام بالمقاتلة المدافعة، كما ذكره جمهور العلماء؛ فليحفظ.

وقوله: (فإنما هو) أي: المار (شيطان) : بيان وتعليل للمقاتلة، قال في «عمدة القاري» : وهذا من باب التشبيه للمبالغة؛ أي: إنَّما هو كالشَّيطان، أو يراد به: شيطان الإنس، وإطلاق الشَّيطان على المارد من الإنس سائغ شائع، وقد جاء في القرآن قوله تعالى: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: ١١٢].

وقال الخطابي: (معناه: أن الشَّيطان يحمله على ذلك، ويحركه إليه، وقد يكون أراد بالشَّيطان: المار بين يديه نفسه، وذلك أن الشَّيطان: هو المارد الخبيث من الجن والإنس).

وقال القرطبي: ويحتمل أن يكون معناه الحامل له على ذلك الشَّيطان، ويؤيده حديث ابن عمر عند مسلم: (لا يدع أحدًا يمر بين يديه، فإن أبى؛ فليقاتله، فإن معه القرين)، ومثله عند ابن ماجه.

وقال ابن المنكدر: (فإنَّ معه العُزَّى، وقيل: معناه: إنَّما هو فعل الشَّيطان لشغل قلب المصلي، كما يخطر الشَّيطان بين المرء ونفسه) انتهى.

وفي الحديث: طلب اتخاذ السترة للمصلي، وفيه خلاف؛ ومذهب الإمام الأعظم وأصحابه رضي الله عنهم: أنها مستحبة، وبه قال مالك والشَّافعي، ويجوز تركها عند مالك، وقال أحمد: إنها واجبة، فإن لم يجد؛ وضع خطًّا؛ لحديث ابن عمر الذي صححه الحاكم: (لا تصلوا إلا إلى سترة، ولا تدع أحدًا (١) يمر بين يديك)، وعند أبي نعيم: قال عمر بن الخطاب: (لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته؛ ما صلى إلا إلى شيء يستره من الناس)، وعند ابن أبي شيبة عن ابن مسعود: أنَّه ليقطع نصف صلاة المرء المرور بين يديه، وقال بالاستحباب جماعة؛ إبراهيم النخعي، وعطاء، والقاسم، وسالم، رواه ابن أبي شيبة.

وحدُّها: من قدمي المصلي إلى موضع سجوده، واختار شمس الأئمة السرخسي، وشيخ الإسلام، والإمام قاضي خان: أنَّه يكره المرور في موضع سجود المصلي، وقيل: مقدار صفين أو ثلاثة، وقيل: ثلاثة أذرع، وقيل: بأربعين ذراعًا، وقدره الشَّافعي وأحمد بثلاثة أذرع، ولم يحده مالك.

وكذلك يستحب في الصحراء أن يتخذ سترة، وروى أبو داود من حديث أبي هريرة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم؛ فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد؛ فلينصب عصًا، فإن لم يكن معه عصًا؛ فليخط خطًّا، ولا يضره ما مر أمامه»، وأخرجه ابن حبان في «صحيحه»، وقال القاضي عياض: هذا حديث ضعيف، وضعفه ابن عيينة، وإسماعيل بن أمية، والشَّافعي، والنَّووي.

ويستحب أن تكون السترة قدر ذراع، وأن يكون بغلظ إصبع؛ لأنَّ ما دونه لا يبدو للناظر من بعيد، ويقرب المصلي من السترة، ويجعلها على أحد حاجبيه الأيمن أو على الأيسر، كما نص عليه أئمتنا الأعلام؛ لما روى أبو داود من حديث المقداد بن الأسود قال: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي إلى عمود، ولا عود، ولا شجر إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمدًا)؛ يعني: لم يقصده قصدًا بالمواجهة، والصمد: القصد لغة، وسترة الإمام سترة لمن خلفه.

والمعتبر عندنا الغرز دون الخط والإلقاء؛ لأنَّ المقصود هو الدرء بالخط، والإلقاء لا يُحصِّلُ المقصود، وقال شيخ الإسلام في «المبسوط» : إنَّما يغرز إذا كانت الأرض رخوة، أمَّا إذا كانت صلبة؛ فيضع وضعًا، لكن يضع طولًا لا عرضًا، وفي «المحيط» : الخط ليس بشيء، وهو قول الجمهور، وجوَّزه أشهب، وبه قال سعيد بن جبير، والأوزاعي، والشَّافعي بالعراق، ثم قال بمصر: لا يخط، وحديث أبي هريرة المار ضعَّفه جماعة؛ عبد الحق، وابن حزم، وغيرهما، ولا يضر وضع سترة مغصوبة، فإنَّها معتبرة عندنا، وعند أحمد تبطل الصلاة، ومثله الثوب المغصوب، انتهى وتمامه في «عمدة القاري».

وفيه: أن المار كالشَّيطان في أنَّه يشغل قلب المصلي عن مناجاة ربه تعالى، وفيه: أنَّه يجوز أن يقال للرجل إذا فتن في الدين: إنَّه شيطان، وفيه: أن الحكم للمعاني لا للأسماء؛ لأنَّه يستحيل أن يصير المار شيطانًا بمروره بين يديه، وفيه: أن دفع الأمور بالأسهل فالأسهل، وفيه: أن المنازعات لا بد [فيها] من الرفع للحاكم، ولا ينتقم الخصم بنفسه، وفيه: أن رواية العدل مقبولة، وإن كان الراوي له منتفعًا به، انتهى، والله أعلم.

ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة.

(١٠١) [باب إثم المار بين يدي المصلي]

هذا (باب) بيان (إِثم المار بين يدي المصلِّي)؛ بكسر اللَّام، وأصل (المار) : مارر، فأسكنت الرَّاء الأولى، وأدغمت في الثانية، والإدغام في مثله واجب، قاله الشَّارح، وهو من الكبائر إذا صلى إلى سترة في الصحراء، أو في المسجد الصغير، وكذا إذا صلى إلى غير سترة في المسجد الكبير، وإنما كان كبيرة؛ لذكر الوعيد عليه في الأحاديث؛ منها: حديث الباب، ومنها: حديث أنس بن مالك عند الترمذي: «لأَنْ يقف أحدكم مئة عام؛ خير له من أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلِّي»، ومنها: ما رواه ابن عبد البر موقوفًا: (لأن يكون الرجل رمادًا يذرى به؛ خير له من أن يمر بين يديه رجل متعمدًا وهو يصلِّي) انتهى، وهذا يدل على أنَّ المرور مكروه تحريمًا، فإن صلى إلى غير سترة في الصحراء أو في المسجد الصغير؛ فإن الكراهة تعود على المصلي دون المار؛ لتقصير المصلي في عدم السترة، وقد يقال: إنهما يشتركان في الإثم؛ لأنَّ المصلي مقصر كما علمت، وكذلك المار يكون مقصرًا؛ لأنَّه علم المصلي أنَّه في الصلاة ومر بين يديه، وكذا إذا مر في موضع سجوده في المسجد الكبير؛ فإن الإثم على المار كما قررناه، وتمامه في شرحنا على «القدوري».

[حديث: لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين]

٥١٠ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي الدمشقي (قال: أخبرنا مالك) هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن أبي النَّضْر)؛ بفتح النُّون وسكون الضَّاد المعجمة: هو سالم بن أبي أمية (مولى عُمر بن عُبيد الله) بِضَمِّ العين المهملة فيهما، (عن بُسْر) بِضَمِّ الباء الموحَّدة، وسكون السين المهملة (بن سعيد)؛ بالتحتية بعد العين المهملة مكبرًا: هو الحضرمي المدني الزاهد التَّابعي الثِّقة، المتوفى سنة مئة، ولم يخلف كفنًا، قلت: والبسر: أوله طلع؛ ثم خَلال -بالفتح-، ثم بَلَح -بفتحتين-، ثم بسر، ثم رطب، ثم تمر، وبابه (نصر) : (أنَّ زيد بن خالد)؛ بفتح الهمزة: هو الجهني الصَّحابي رضي الله عنه (أرسله)؛ أي: جعله رسولًا؛ يعني: جعل زيدٌ بُسرًا رسولًا برسالته، كذا في «الصِّحاح»، فما فسره العجلوني: (أي: بعثه)؛ مخالف للُّغة؛ فافهم، (إلى أبي جُهَيم)؛ بِضَمِّ الجيم، وفتح الهاء: هو عبد الله بن جُهَيم، قال إمامنا الشَّارح: أبو جُهَيم -بالتصغير- -مر في باب (التيمم في الحضر) - ابن عبد البر راوي حديث التيمم هو غير راوي حديث المرور، وقال الكلاباذي: أبو جهيم، ويقال: أبو جهم بن الحارث، روى عنه البخاري في (الصلاة) و (التيمم)، وقال النَّووي: أبو جهيم راوي حديث المرور وحديث التيمم، عن أبي الجهم -مكبرًا- المذكور في حديث الخميصة والإنبجانية؛ لأنَّ اسمه عبد الله وهو أنصاري، واسم ذلك عامر وهو عدوي، وقال الذهبي: (أبو الجهيم، ويقال: أبو الجهم بن الحارث بن الصمة، كان أبوه من كبار الصَّحابة)، ثم قال: (أبو جهيم: عبد الله بن جهيم، جعله وابن الصمة واحدًا أبو نعيم وابن منده، وكذا قاله مسلم في بعض كتبه، وجعلهما ابن عبد البر اثنين، وهو أشبه،


(١) في الأصل: (أحد)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>