للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

إلى خلاف أحمد، وإسحاق، ومالك في بعض الروايات السابقة، فكأنهم أرادوا بالإجماع: الإجماع الإجمالي، وهو كافٍ في دعوى الإجماع، فاعتراضه ليس في محله؛ فافهم، والله أعلم.

عن ابن عباس مما وصله عبد الرزاق قال: (ويأتيها) أي: المستحاضة (زوجها) يعني: أنه يطؤها، فدم الاستحاضة لا يمنع صلاةً، ولا صومًا، ولا قراءة قرآن، ولا وطئًا، هذا مذهب إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم وأصحابه، وبه قال جمهور الفقهاء، وعامة العلماء، ومنع من وطء المستحاضة جماعة، واستدلوا بسيلان دم الاستحاضة، وقالوا: كل دم هو أذًى يجب غسله من الثوب والبدن، فلا فرق في المباشرة بين دم الحيض والاستحاضة؛ لأنَّه كله رجس، وأما الصَّلاة؛ فرخصة وردت بها السنة؛ كما يصلي من به سلس بول، هذا قول إبراهيم النخعي، وسليمان بن يسار، والحكم بن عيينة، وعامر الشَّعبي، وابن سيرين، والزُّهْرِي، واختلف فيه عن الحسن وهو قول عائشة، فإنها قالت: المستحاضة لا يأتيها زوجها، وبه قال ابن علية، والمغيرة بن عبد الرحمن، وكان من أعلى أصحاب مالك، وأبو مصعب، وبه كان يفتي، وقال مالك: أمر أهل الفقه والعلم بذلك وإن كان دمها كبيرًا، رواه عنه ابن وهب، وقال أحمد: أحب إلي ألَّا يطأها إلا أن يطول ذلك عليها، وهذا كله مردود، واستدل الجمهور بما رواه المؤلف وغيره من حديث فاطمة بنت أبي حبيش قالت لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: إني لا أطهر، أفأدع الصَّلاة؟ قال عليه السلام: «إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة»، وروى أبو داود من حديث عائشة: أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت سبع سنين، فاستفتت النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: «إن هذه ليست بالحيضة، ولكن هذا عرق»؛ يعني: أن دم الاستحاضة دم عرق انفجر، وهو مثل ما لو افتصدت وخرج منها الدم، إلا أن الأول في الباطن، وهذا في الظاهر من الجسد، ولأن دم الاستحاضة ليس بأذًى يمنع الصَّلاة والصوم، فوجب ألَّا يمنع الوطء أيضًا، وروى أبو داود في «سننه» من حديث عكرمة قال: (كانت أم حبيبة تستحاض وكان زوجها يغشاها) أي: يجامعها، ورواه البيهقي أيضًا، وقال ابن عبد البر: (لما حكم الله في دم الاستحاضة بأنه لا يمنع الصَّلاة وتعبد فيه بعبادة غير عبادة الحيض؛ وجب ألَّا يحكم له بشيء من حكم الحيض إلا فيما أجمعوا عليه من غسله كسائر الدماء).

قلت: فقولهم: (كل دم أذًى...) إلخ: مسلَّمٌ في كونه هو نجس يجب غسله واجتنابه، وغير مسلم من حيث إنه يمنع الوطء؛ لأنَّ الأذى ما يتأذى منه، فدم الحيض أذًى؛ لنتن ريحه، ودم الاستحاضة ليس بأذى؛ لعدم الرائحة، فهو غير أذى.

وقولهم: (إن الصَّلاة رخصة) : يلزم منه أن يكون الوطء رخصة أيضًا؛ لأنَّ فيه حق المخلوق؛ وهو الزوج، فهو مقدم على حق الخالق؛ وهو الصَّلاة.

وقوله: (إذا صلت) ليس له تعلق بقوله: (ويأتيها زوجها) بل هي جملة مستقلة ابتدائية جزائية، وفي جوابها وجهان؛ الأول على قول الكوفيين: جوابها ما تقدمها، وهو قوله: (تغتسل وتصلي)؛ والتقدير على قولهم: المستحاضة إذا صلت -يعني: إذا أرادت الصَّلاة-؛ تغتسل وتصلي، الثاني على قول البصريين: أن الجواب محذوف؛ تقديره: إذا صلت؛ تغتسل، كذا قرره إمام الشارحين، وقوله: (الصَّلاة أعظم) جملة من المبتدأ والخبر كأنها جواب عن سؤال مقدر بأن يقال: كيف يأتي المستحاضة زوجها؟ فقال: الصَّلاة أعظم من الوطء، فإذا جاز لها الصَّلاة التي هي أعظم؛ فالوطء بالطريق الأولى، كذا في «عمدة القاري».

قلت: والظاهر أن هذا من كلام الراوي كما دل عليه رواية أبي بكر ابن أبي شيبة، ويحتمل أنه من كلام ابن عباس، وعلى كل؛ فهو رد على من منع وطء المستحاضة (١)، وزعم ابن حجر أن الظاهر أن هذا بحث من البخاري، وأراد به بيان الملازمة؛ أي: إن أجازت الصَّلاة؛ فجواز الوطء أولى، واعترضه إمام الشارحين، فقال: (قلت: قوله: «وأراد به بيان الملازمة» أخذه من الكرماني) انتهى.

قلت: يعني: أن هذه العبارة عبارة الكرماني، فساقها ابن حجر ونسبها لنفسه، وهذا دأبه في جميع كتبه يذكر ما قالوه وينسبه لنفسه، وكلامه هذا غير صحيح؛ لأنَّه من ديك لا يصيح، وهذا الظاهر ليس بظاهر؛ لأنَّه لو كان كما زعمه هذا القائل: إنه بحث من البخاري؛ لكان (قال البخاري) قبل هذا الكلام: قال أبو عبد الله، فإن ذلك عادته في جميع الكتب والأبواب، كما لا يخفى على أولي الألباب، وهنا غير مذكور، فهو دليل على أنه ليس من كلامه، ويدل لهذا: أن عادته أخذ الحكم من الحديث، ووضعه ترجمة، ويقتصر على هذا تارة وأخرى يقول: قال أبو عبد الله، وهذا دليل على أنه ليس من كلامه، والظاهر: ما قلناه أنه من كلام الراوي أو ابن عباس، والظاهر الأول؛ فافهم، والله أعلم.

[حديث: إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة]

٣٣١ - وبالسَّند إليه قال: (حدثنا أحمد ابن يونس) هو أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي اليربوعي الكوفي، ونسبه لجده؛ لشهرته به، (عن زُهير) بضمِّ الزاي مصغرًا: هو ابن معاوية الجعفي الكوفي (قال: حدثنا هشام) وفي رواية: (هشام بن عروة) (عن عُروة) بضمِّ العين المهملة: هو ابن الزبير بن العوام، (عن عائشة) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما، (قالت: قال النبيُّ) الأعظم، وللأصيلي: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: لفاطمة بنت أبي حبيش حين سألته عن استحاضتها: «ذلك عرق وليست بالحيضة» : (إذا أقبلت الحيضة) عليك؛ (فدعي) أي: اتركي (الصَّلاة) أي: أيام الحيض، (وإذا أدبرت) أي: انقطع دم الحيض وجاء الطهر، وعلامة إدبار الحيض وانقطاعه الزمان والعادة، فإذا أقبلت عادتها؛ تحرت، وإن لم يكن لها ظن؛ أخذت بالأقل؛ (فاغسلي) أي: عنك (الدم) أي: دم الحيض، ولم يذكر الاغتسال في هذا الحديث، ولا بد منه، وذكره في باب (إقبال الحيض وإدباره) قال: «فاغتسلي»، والأحاديث يفسر بعضها بعضًا؛ لأنَّه لا بد من الاغتسال منه، كما لا يخفى، (وصلي) وسبق في باب (غسل الدم)؛ كهنا من غير إيجاب الغسل، وقال عروة: (ثم توضئي لكل صلاة)؛ بإيجاب الوضوء، وهناك: (فاغتسلي)؛ بإيجاب الغسل؛ لأنَّ أحوال المستحاضة مختلفة، فيوزع عليها، أو نقول إيجاب الغسل والتوضُّؤ لا ينافي التعرض لهما، وإنما ينافي التعرُّض لعدمهما، وقوله: (فاغتسلي وصلي) لا يقتضي التكرار للاغتسال لكل صلاة، بل يكفي غسل واحد، ولا يرد حديث أم حبيبة: كانت تغتسل


(١) في الأصل: (المستحاطة)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>