للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وقال الكرماني: (وفي الحديث: جواز الصلاة على القبر، وأنَّها لا تجوز عليه إلا عند حضور قبره) انتهى، قلت: فالحديث حجة على الشَّافعي في جوازه الصلاة على الغائب؛ لأنَّه عليه السَّلام سأل عنه حتى دلوه على قبره، فقام فصلى عليه، ولم يصلِّ في مسجده عليه صلاة الغائب، كما لا يخفى.

وزعم العجلوني أنَّ مذهب الشَّافعي أنَّه تصح الصلاة عليه، ولو بعد بلائه على الصَّحيح؛ لبقاء عجب الذنب، انتهى.

قلت: ويردُّ هذا أنَّه عليه السَّلام صلى عليه قبل ثلاثة أيام؛ لما رواه ابن حبان من حديث خارجة بن زيد المتقدم، وفيه: (فلما وَرَد البقيع؛ إذا هو بقبر جديد...)؛ الحديث، ومن المعلوم أن الجديد: ما دفن يومه إلى دون الثلاثة أيام، ويدل على ذلك حديث الباب؛ لأنَّه قال: (فمات، فسأل النَّبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقالوا: مات...)؛ الحديث، فأتى بالفاء التعقيبية بألفاظه الدَّالة على أنَّهم لمَّا رجعوا من دفنه سألهم عليه السَّلام عنه، ثم بادروا إلى الصلاة على قبره، وهذا يدل على أنَّ الصلاة بعد ثلاثة أيام لا تجوز، كما لا يخفى.

ومذهب إمامنا الأعظم رئيس المجتهدين أنَّه إذا صُلِّي على جنازة؛ لا تعاد الصلاة عليها ثانيًا؛ لأنَّها غير مشروعة، وصلاته عليه السَّلام إنَّما كانت خصوصية ورحمة به، يدل عليه قوله عليه السَّلام: «إنَّ هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإنَّ الله تعالى ينورها لهم بصلاتي عليهم»، رواه مسلم، وقوله عليه السَّلام: «فإنَّ صلاتي عليه رحمة له»، رواه ابن حبان في «صحيحه»، فهذا دليل واضح على أنَّ صلاته عليه كانت خصوصية ورحمة للميت، كما صرح به الحديث، وله عليه السَّلام أن يخصَّ ما شاء بمن شاء؛ لأنَّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ فافهم.

واستثنى أئمتنا الأعلام ما إذا صلى على جنازةٍ غير الوليِّ ثم حضر الوليُّ بعد الصلاة؛ فله أن يعيد الصلاة عليها، وإذا لم يصلِّ عليه حتى دفن؛ صلى على قبره مالم ينتفخ أو ينفسخ، وقدَّره المتأخرون بثلاثة أيام، ومذهبنا هو الصَّواب، وحديث الباب يدل عليه، وكذلك حديث مسلم وحديث ابن حبان، كما رأيت بيانه، وسيأتي تمام الكلام عليه في (الجنائز) إن شاء الله تعالى.

(٧٣) [باب تحريم تجارة الخمر في المسجد]

هذا (باب) بيان (تحريم تجارة الخمر في المسجد) : الجار والمجرور متعلق بالتحريم لا بالتجارة، ولابد من تقدير مضاف؛ لأنَّ المراد: بيان ذلك وبيان أحكامه، وليس المراد أن تحريمها مختص بالمسجد؛ لأنَّها حرام سواء كانت في المسجد أو في غيره؛ كذا قاله إمام الشَّارحين.

[حديث: لما أنزل الآيات في الربا من سورة البقرة في الربا]

٤٥٩ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عَبْدان)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الموحَّدة، بصورة المثنى، فيجوز إعرابه كإعرابه وكإعراب المفرد، وهذا لقب له كما سبق، واسمه عبد الله بن عثمان المروزي، وأصله من البصرة، توفي سنة إحدى وعشرين ومئتين، (عن أبي حمزة)؛ بالمهملة والزاي: هو محمَّد بن ميمون السكري، (عن الأعمش) : هو سليمان بن مهران الكوفي التَّابعي، (عن مسلم) : هو ابن صُبَيح؛ بِضَمِّ المهملة، وفتح الموحَّدة، مصغر صبح، أبي الضُّحى الكوفي التَّابعي، (عن مسروق) : هو ابن الأجدع الكوفي التَّابعي، وسمِّي مسروقًا؛ لأنَّه سرقه سارق في صغره، (عن عائشة) هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهماأنها (قالت: لما أُنْزِل) بِضَمِّ الهمزة، وسكون النُّون، وكسر الزاي، ولأبي ذر وابن عساكر: (أُنْزِلَت)؛ بالتَّاء مع البناء للمفعول أيضًا، ولابن عساكر أيضًا: (نَزَلَت)؛ بالبناء للفاعل مخففًا (الآياتُ)؛ بالرفع: فاعل أو نائبه (من سورة) وفي رواية: (في سورة) (البقرة)؛ أي: في السورة التي ذكرت فيها البقرة، والجار والمجرور صفة لـ (الآيات)، أو حال منها ويحتمل تعلقه بالفعل، لكنه بعيد؛ فتأمل، (في الربا) بالقصر؛ أي: في تحريمه، والجار والمجرور يحتمل (١) أنَّه متعلق بالفعل، ويحتمل كونه صفة لـ (الآيات) أو حالًا منها، والأول أظهر.

قال إمام الشَّارحين: (والربا: مقصور من ربا يربو؛ إذا زاد، فيكتب بالألف، وأجاز الكوفيون كتبه بالياء؛ بسبب الكسرة في أوله، وقد كتب في المصحف بالواو، قال الفراء: إنَّما كتبوه بالواو؛ لأنَّ أهل الحجاز تعلموا الخطَّ من أهل الحيرة، ولغتهم: الربو، فعلموهم صورة الخط على لغتهم، قال: ويجوز كتبه بالألف وبالواو وبالياء) انتهى، وزعم العجلوني أن ظاهر كلام الفراء: أنَّ هذه تجري في المصحف وفي غيره؛ فيراجع، انتهى، قلت: الظَّاهر أنَّها لا تجري في المصحف؛ لأنَّ رسم الكلام القديم سنَّة متَّبعة، والمتواتر أنَّ رسمه هكذا بالواو، فلا يجوز كتبه بغيرها، وكلام الفراء مبني على اللُّغة العربية والقواعد الرسمية، وهو لا ينافي ذلك، قال الكرماني: (إنَّما رُسم في القرآن بالواو، كالصلاة؛ لتغليظه وتفخيمه في لغة، وأما في غير القرآن؛ فيكتب بالألف) انتهى، وقال القسطلاني: (زيدت الألف بعدها تشبيهًا بواو الجمع، والمراد بـ «الآيات» : قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَايَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ...} إلى آخر العشر؛ أي: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} [البقرة: ٢٧٥ - ٢٨١]، والمراد من الأكل: الأخذ والتناول، وإنما خصَّ الأكل بالذكر؛ لأنَّه أعظم منافع المال، ولأنَّ الربا شائعٌ في المطعومات) انتهى.

وقوله (خرج النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أي: من بيته (إلى المسجد) جواب (لمَّا)، و (أل) في (المسجد) : للعهد؛ أي: المعهود؛ وهو المسجد النَّبوي (فقرأهنَّ) أي: الآيات المذكورة (على الناس)؛ أي: الصَّحابة، والمراد: من كان حاضرًا منهم،) (ثم حرَّم) بالتشديد؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ أي: ذكر تحريم (تجارة الخمر)؛ أي: في المسجد، والمراد: أنَّه بيَّن أن تجارة الخمر حرام، فهو تأكيد للأمر بالتحريم، أعاده؛ لاحتمال عدم فهم تحريمها من الآيات، فأعاده بيانًا وإيضاحًا لما تلاه، قال إمام الشَّارحين: (تجارة الخمر؛ أي: بيعها وشرائها) انتهى.

ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة، وقال صاحب «التوضيح» آخذًا من كلام ابن بطال: (وغرض البخاري في هذا الباب أن المسجد لمَّا كان للصلاة ولذكر (٢) الله، منزهًا عن الفواحش والخمرُ والرِّبا من أكبر الفواحش؛ يمنع من ذلك، فلمَّا ذكر الشَّارع تحريمهما في المسجد؛ ذكر أنَّه لا بأس بذكر المحرمات والأقذار في المسجد على وجه النهي عنها والمنع منها) انتهى.

وأخذ


(١) في الأصل: (فيحتمل)، ولعله تحريف.
(٢) في الأصل: (وكذكر)، ولعله تحريف.

<<  <   >  >>