للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

من الثاني؛ لدلالة الأول) انتهى.

قال القسطلاني: (نعم؛ في رواية أبي ذر: «كان يقم المسجد»؛ بالتذكير) انتهى، واستدل العجلوني بهذه الرواية على أولوية ما هنا، كما سبق، قلت: وهو لا يدلُّ لما قاله؛ لأنَّ هذه الرواية ذكرت كبقية الروايات، فليست تدل على الأولوية، كما لا يخفى؛ فافهم، على أنَّه أكثر الروايات: (كانت) بالتأنيث؛ فليحفظ.

وقوله: (ولا أراه) بِضَمِّ الهمزة؛ أي: لا أظنه (إلا امرأة) من كلام أبي رافع، ويحتمل أن يكون من كلام أبي هريرة، قاله إمام الشَّارحين.

قلت: والضَّمير في (أراه) يرجع إلى الشَّخص المذكور الذي كان يقمُّ المسجد.

وأمَّا قوله: (فذكر) أي: أبو هريرة (حديث النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أي: الذي تقدم ذكره قريبًا: (أنَّه) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (صلَّى)؛ أي: صلاة الجنازة (على قبره)؛ أي: الرجل، فهو من كلام أبي رافع لا غير، وفي رواية أبي الوقت والأصيلي: (قبرها)؛ أي: المرأة، وفي رواية: (على قبر)؛ بالتنكير.

وزعم الكرماني أن لفظة: (أنَّه) يحتمل أن يكون تفسير الحديث، فلا يكون المذكور إلا الصلاة، وأن يراد به ذكر الحديث الذي فيه: (أنَّه صلى على قبرها)، فالمذكور جميع الحديث الذي تقدم في باب كنس المسجد، انتهى، قلت: وهذا كله صادر من غير تأمُّل؛ لأنَّ قوله: (فذكر حديث النَّبي صلى الله عليه وسلم) صريح في أنَّه ذكره بتمامه، وأن من جملة الحديث أنَّه عليه السَّلام صلَّى على قبرها، فالضَّمير في (أنَّه) يتعين رجوعه إلى النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، ثم رأيت البرماوي قال: (والضمير في «أنَّه» راجع إلى النَّبي عليه السَّلام) انتهى، قلت: فلا حاجة إلى ما زعمه الكرماني؛ لأنَّ لفظ السياق يردُّه، كما لا يخفى؛ فافهم.

ففي الحديث المطابقة للتَّرجمة، وفيه: الحضُّ على كنس المسجد وتنظيفه؛ لأنَّه عليه السَّلام إنَّما خصَّه بالصَّلاة عليه بعد دفنه من أجل ذلك، وقد روي عنه عليه السَّلام: (أنَّه كنس المسجد)، وفيه: الترغيب في شهود الجنائز لا سيما الصَّالحون.

وفيه: جواز الصلاة على القبر، وهو مروى عن علي وأبي موسى، وهو قول الأوزاعي وأحمد والشَّافعي، ومنعها الإمام الأعظم، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، والثَّوري، واللَّيث، ومالك، وأجابوا عن حديث الباب ونحوه: بأنه خصوصية ورحمة للميت؛ يدل عليه ما رواه مسلم في «صحيحه» : (إنَّ هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم)، وما رواه ابن حبان في «صحيحه» عن يزيد بن ثابت قال: (خرجنا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلما وَرَد البقيع؛ إذا هو بقبر جديد، فسأل عنه؛ فقيل: فلانة، فعرفها وقال: «ألا آذنتموني بها، فإنَّ صلاتي عليها رحمة لها» ...)؛ الحديث، فهذا يدل على أنَّ صلاته كانت خصوصية، وقد سبق بقية الكلام عليه في الباب السَّابق؛ فيراجع، والله أعلم.

(٧٥) [باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد]

هذا (باب) في بيان حكم (الأسير) : (فعيل) بمعنى (مفعول)، من أسره: شده بالأساري، وهو القِد، ومنه سمِّي الأسير؛ لأنَّهم كانوا يشدُّونه بالقِد، فسمِّي كلُّ أخيذٍ أسيرًا وإن لم يشدَّ به، كذا في «عمدة القاري»، (أو) حكم (الغريم)؛ وهو الذي عليه الدَّين، وقد يكون الغريم الذي له الدَّين، والمراد هنا: الأول، قاله إمام الشَّارحين، ثم قال: وكلمة (أو) فيه للتنويع، وهي رواية الأكثرين، وفي رواية ابن السكن وابن عساكر: (والغريم) بواو العطف، انتهى، وقوله: (يُربَط)؛ بِضَمِّ أوله مبني للمجهول (في المسجد) : اللَّام فيه للجنس؛ أي: أي مسجد كان، جملة وقعت حالًا من كل واحد من الأسير والغريم، بتقدير جملة أخرى نحوها للمعطوف عليه، كذا قاله إمامنا الشَّارح.

واعترضه العجلوني بأنه لا حاجة إليه، وجوَّز كون جملة (يربط في المسجد) حال من المضاف إليه، قال: (ويجوز جعلها مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وحقه تثنية ضمير «يربط» على الروايتين؛ لأنَّ «أو» التنويعية كالواو، ولعله أراد كلًّا منهما أو المذكور) انتهى.

قلت: وهذا تعصب بارد، فإنَّ ما قاله إمامنا الشَّارح صحيح المعنى، كما لا يخفى؛ لأنَّ البخاري أتى بكلمة (أو) إشارة إلى أن حكم الأسير كحكم الغريم، وأن كلًّا منهما يربط في المسجد، ولا ريب أنَّ الأسير غير الغريم لكنَّ حكمهما واحد، وعلى هذا فالجملة تكون حالًا من كل منهما بالتقدير المذكور.

وما زعمه العجلوني غير ظاهر؛ لأنَّه على جعل الجملة حالًا من المضاف إليه -وهو الأسير- لا يكون للغريم حكم، ويصير الضمير في (يربط) للأسير، وهو باطل؛ لأنَّه يكون حكم الغريم مسكوتًا عنه، وهو خلاف المقصود.

وقوله: (وحقه...) إلخ: غير صحيح؛ لأنَّ ضمير (يربط) على كون الجملة من الأسير والغريم يعود على كل واحد منهما، فيقال: حكم الأسير حال كونه يربط في المسجد، وحكم الغريم حال كونه يربط في المسجد، وهذا ظاهر لمن له أدنى ذوق في العلم، على أنَّ كلمة (أو) هنا المراد بها: تنويع الجنس لا الحكم، فإن الحكم فيهما واحد، والجنس مختلف؛ لأنَّ الأسير غير الغريم، فمراد المؤلف: بيان أن حكم الأسير كحكم الغريم.

وقوله: (ولعله...) إلخ: لا حاجة لما زعمه بعدما علمت ما ذكرناه، وتقديرنا الحكم عند قوله: (أو الغريم) لازم ظاهر المعنى، وذلك حتى يعود الضمير في (يربط) إلى كل واحد منهما؛ فافهم.

وزعم العجلوني أنَّه يجوز تنوين (باب)، وما بعده: مبتدأ ومعطوف عليه، والجملة في (يربط في المسجد) خبره.

قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه يلزم عليه فوتَ حكم الغريم، وخلوَّ ضمير في (يربط) يعود على الغريم، فيصير قوله: (أو الغريم) لا فائدة فيه، وهو غير ظاهر؛ فافهم.

ثم قال العجلوني: (وأمَّا قول القسطلاني: «باب» حكم «الأسير أو الغريم» حال كونه «يربط في المسجد» الإباحة؛ فلعله تقدير معنى لا إعراب) انتهى.

قلت: هو ممنوع، بل هو تقدير معنى وإعراب أيضًا؛ لأنَّ قوله: (باب) : خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا باب، وقوله: (حكم) : مبتدأ، وقوله: (الإباحة) : خبره، وهذا ظاهر لمن له أدنى ذوق في العلم؛ فافهم ذلك، ولا تكن من المتعصبين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

<<  <   >  >>