للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

إمام الشَّارحين، كما لا يخفى، واحتج أحمد ابن حنبل بظاهر هذا الحديث، وشرط الوضع على عاتقه عند القدرة، وفي رواية عنه: (أنه تصح صلاته، ولكنه يأثم بتركه).

قلت: ولا دليل فيه له؛ لأنَّ الأمر فيه للندب عند الجمهور، كما مر.

قال إمام الشَّارحين: (وجه مطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث إن المخالفة بين طرفي الثوب لا يستر إلا بجعل شيء من الثوب على العاتق)، وزعم ابن حجر أنه في بعض طرق هذا الحديث: «فليخالف بين طرفيه على عاتقيه»، وهو عند أحمد من طريق معمر عن يحيى، وعند الإسماعيلي وأبي نعيم من طريق حسين عن شيبان، ثم ادعى أنَّ هذا أولى في مطابقة الترجمة؛ لأنَّ فيه التصريح بالمراد، فالمصنف أشار إليه كعادته)، ورده إمام الشَّارحين فقال: (دعوى الأولوية غير صحيحة؛ لأنَّ الدلالة على المراد من الطريق الذي للمصنف من نفس الكلام المسوق أولى من الكلام الأجنبي عنه) انتهى.

قلت: بل هو المتعين؛ لأنَّ أخذ الدلالة عند المحققين من فحوى الكلام المسوق لا من كلام خارج عنه؛ لأنَّ ذلك معيب في الصناعة، وعادة المؤلف ليست كما ذكره هذا القائل؛ لأنَّ المراد بعادته: ترتيب أبوابه من ترجمتها وأحاديثها المطابقة لها، فإنه يذكر الباب ويترجم عليه، ثم يسوق الأحاديث المطابقة لما ترجم له، فهذه عادته، وكتابه «الجامع الصحيح» يدل عليه، فقول هذا القائل: (إن المصنف أشار بالترجمة إلى ما رواه أحمد والإسماعيلي وأبو نَعيم) : غير صحيح؛ لأنَّ ذلك بعيد، وغير مراد للمؤلف؛ لأنَّه لو كان مرادًا له؛ لذكره في كتابه هذا، وبعيد أن يحيل على خلاف كتابه؛ لأنَّه معيب في الصناعة؛ فليحفظ.

وقال إمام الشَّارحين: وفي هذا الحديث الشك من يحيى بين السماع والسؤال حيث قال أولًا: (سمعته)؛ أي: سمعت عكرمة، ثم قال: (أو كنت سألته)؛ يعني: سمعت منه إمَّا بسؤالي أو بغير سؤالي لا أحفظ كيفية الحال، وأخرجه الإسماعيلي عن مكي بن عبدان، عن حمدان السلمي، عن أبي نعيم بلفظ: (سمعته أو كتب به إلي)، والشك هنا من السماع والكتابة، وقال الإسماعيلي: (لا أعلم أحدًا ذكر فيه سماع يحيى عن عكرمة)، ورواه هشام، وحسين، ومعمر، وزيد بن سنان؛ كلٌّ قال عن عكرمة لم يذكر خبرًا ولا سماعًا، وأخرجه أبو داود من حديث يحيى، عن عكرمة، عن أبي هريرة بالعنعنة من غير شك، ولفظه: «إذا صلى أحدكم في ثوب؛ فليخالف بطرفيه على عاتقيه» انتهى، والله تعالى أعلم.

(٦) [باب إذا كان الثوب ضيقًا]

هذا (بابٌ)؛ بالتنوين: (إذا كان الثوب ضيقًا)؛ أي: كيف يفعل المصلي، والضَّيِّق؛ بفتح الضاد المعجمة، وتشديد المثناة التحتية، ويجوز تخفيفها، وهو صفة مشبهة، واسم الفاعل في هذه المادة: (ضائق) على وزن (فاعل)، والفرق بينهما: أن الصفة المشبهة تدل على الثبوت، واسم الفاعل يدل على الحدوث، كذا في «عمدة القاري».

[حديث: ما السرى يا جابر؟]

٣٦١ - وبالسند إليه قال: (حدثنا يحيى بن صالح) : هو أبو زكريا الوُحاظي -بضم الواو، وتخفيف الحاء المهملة، وبالظاء المعجمة- الحمصي، الحافظ الثقة، المتوفى سنة اثنتين (١) وعشرين ومئتين (قال: حدثنا فُلَيْح)؛ بضم الفاء، وفتح اللام، وسكون التحتية، آخره حاء مهملة، وفليح لقبه، واسمه عبد الملك، وكنيته: أبو يحيى (بن سُلَيْمان) بضم السين المهملة، وفتح اللام، وسكون التحتية، (عن سعِيد) بكسر العين المهملة (بن الحارث)؛ بالثاء المثلثة: هو الأنصاري قاضي المدينة (قال: سألنا جابر بن عبد الله) : هو الأنصاري رضي الله عنه، (عن) حكم (الصلاة في الثوب الواحد) كيف يفعل المصلي؟ (فقال) أي: جابر: (خرجت مع النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) من المدينة (في بعض أسفاره)؛ أي: في غزوة بواط، كما عينه مسلم في روايته، وبُواط بضم الموحدة، وتخفيف الواو، بعدها ألف، ثم طاء مهملة، قال الصغاني: (بواط: جبال جهينة في ناحية ذي خشب، بين بواط والمدينة ثلاثة (٢) برد أو أكثر)، وقال ابن إسحاق: (جميع ما غزا النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بنفسه الكريمة سبع وعشرون (٣) غزوة، غزوة ودان وهي غزوة الأبواء، وغزوة بواط من ناحية رضوى...)، ثم عد الجميع، كذا قاله إمام الشَّارحين في «عمدة القاري».

(فجئت ليلة) أي: إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (لبعض أمري)؛ أي: لأجل بعض حوائجي، والأمر: هو واحد الأمور، لا واحد الأوامر؛ فافهم.

(فوجدته) صلَّى الله عليه وسلَّم (يصلي) : جملة محلها نصب على أنه مفعول ثان لـ (وجدت)، ولم تعلم هذه الصلاة، والظاهر: أنها نافلة الليل يدل عليه قوله: (ما السرى)؛ فافهم.

قال جابر: (وعلي ثوب واحد) : جملة اسمية في محل النصب على الحال، (فاشتملت به)؛ يعني: خالفت بين طرفي الثوب على عاتقي، وهو التوشح: وهو الاشتمال على المنكبين (وصليت إلى جانبه) : وكلمة (إلى) في الأصل: للانتهاء؛ والمعنى: صليت منتهيًا إلى جانب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ويجوز أن تكون بمعنى (في)؛ لأنَّ حروف الجر يقوم بعضها مقام البعض، ويجوز أن يقال: فيه تضمين معنى الانضمام؛ أي: صليت منضمًا إلى جانبه عليه السَّلام، كذا في «عمدة القاري».

قلت: يعني: أن جابر صلى مقتديًا بالنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في النافلة ليلًا، وهو جائز من غير كراهة؛ لأنَّه على سبيل التداعي، ولهذا لم ينهه عليه السَّلام عن ذلك، وأقره عليه؛ فافهم.

(فلما انصرف) أي: فرغ النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من الصلاة؛ (قال) عليه السَّلام: (ما السُّرى)؛ بضم السين والقصر؛ أي: ما سبب سيرك ومجيئك إلي في الليل؟ (يا جابر)؛ وإنما سأله عن ذلك؛ لعلمه بأن الداعي له على المجيء بالليل أمر وحاجة ضرورية أكيدة، (فأخبرته بحاجتي) ولم يعلم ذلك الأمر، (فلما فرغت) أي: من بيان حاجتي؛ (قال) عليه السَّلام له: (ما هذا الاشتمال الذي رأيت؟)؛ هو استفهام إنكاري، وسبب الإنكار: أن الثوب كان ضيقًا، وأنه خالف بين طرفيه، وأنه تواقص؛ أي: انحنى عليه حتى لا يسقط؛ فكأنه عند المخالفة بين طرفي الثوب لم يصر ساترًا للعورة، فانحنى؛ ليستتر، فأعلمه عليه السَّلام بأن محل ذلك ما إذا كان الثوب واسعًا، وأمَّا إذا كان ضيقًا؛ فإنه يجزئه أن يئتزر به؛ لأنَّ المقصود هو ستر العورة، وهو يحصل بالائتزار، ولا يحتاج إلى الانحناء المغاير للاعتدال المأمور به، كذا في «عمدة القاري».

قلت: وقد بيَّن مسلم في روايته سبب الإنكار؛ حيث أخرج هذا الحديث من حديث عبادة عن جابر مطولًا، وفيه: «إذا كان واسعًا؛ فخالف بين طرفيه، وإن كان ضيقًا؛ فاشدده على حقوك»، وأخرجه أبو داود كذلك، وحَِقوك؛ بفتح الحاء المهملة وكسرها: الإزار، والأصل فيه: معقد


(١) في الأصل: (اثنين)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (ثلاث)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٣) في الأصل: (سبعًا وعشرين)، والمثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>