للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

رؤوس الأصابع إلى الساق مرة واحدة، (ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى)؛ أي: وهو لابس لخفيه، ففيه: المطابقة للترجمة؛ لأنَّه قد صلى وهو لابس لهما؛ لأنَّه لو نزعهما بعد الغسل؛ لوجب عليه غسل رجليه، ولو غسل؛ لنقل في الحديث، كذا في «عمدة القاري».

قلت: ولأنه لو نزعهما بعدما مسح عليهما؛ لوجب عليه غسل الرجلين فقط، فلو كان غسل؛ لكان صرَّح به في هذا الحديث، وعدم التصريح بذلك دليل على أنَّه صلى وهو لابس خفيه، ففيه استحباب الصلاة بالخفين.

(فَسُئِلَ)؛ بضم السين المهملة على صيغة المجهول؛ أي: سئل جرير عن المسح على الخفين والصلاة فيهما، والسائل له عن ذلك همام، كما بينه الطبراني في حديثه من طريق جعفر بن الحارث عن الأعمش، فعاب عليه ذلك رجل من القوم، كذا في «عمدة القاري»، (فَقَالَ) أي: جرير: (رَأَيْتُ) أي: أبصرت (رسول الله صلى الله عليه وسلَّم)؛ بالنصب مفعول أول لـ (رأيت)، والمفعول الثاني: جملة قوله: (صَنَعَ) أي: فعل وتوضأ وضوءًا (مِثْلَ هَذَا)؛ أي: أنَّه بال، ثم توضأ ومسح على خفيه، ثم قام فصلى فيهما (قَالَ إبراهيم)؛ أي: المذكور، وهو ابن يزيد النخعي التابعي: (فَكَانَ) أي: حديث جرير هذا (يُعْجِبُهُمْ)؛ أي: القوم وهم الصحابة والتابعون؛ لأنَّه من جملة الذين أسلموا في آخر حياة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد أسلم في السنة التي توفي فيها النبيُّ الأعظم عليه السلام، وفي رواية مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش: (كان يعجبهم هذا الحديث)، ومن طريق عيسى بن يونس: (فكان أصحاب عبد الله بن مسعود يعجبهم) انتهى.

(لأَنَّ جَرِيرًا) : هو ابن عبد الله الصحابي المذكور (كَانَ آخِرِ مَنْ أَسْلَمَ) وفي رواية مسلم: (لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة).

وفي رواية أبي داود: (أنَّ جريرًا بال، ثم توضأ فمسح على الخفين، ثم قال: ما يمنعني أن أمسح وقد رأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يمسح؟ قالوا: إنَّما كان ذلك قبل نزول المائدة، قال: ما أسلمت إلا بعد).

ورواه الطبراني في «الأوسط» من حديث ربعي بن حراش عن جرير قال: (وضأت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فمسح على خفيه بعدما نزلت سورة المائدة)، ثم قال: لم يروه عن حماد بن أبي سليمان عن ربعي إلا ياسين الزيات، تفرد به عبد الرزاق وياسين متكلَّم فيه.

وفي رواية له من حديث محمد بن سيرين عن جرير: (أنَّه كان مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في حجة الوداع، فذهب النبيُّ الأعظم صلى الله عيه وسلم يتبرَّز، فرجع فتوضأ ومسح على خفيه)، ثم قال: لم يروه عن محمد بن سيرين إلا خالد الحذاء، ولا [عن] خالد إلا حارث بن شريح، تفرد به سنان بن فروخ، كذا في «عمدة القاري».

ثم قال: وفي رواية الترمذي من طريق شهر بن حوشب قال: (رأيت جرير بن عبد الله...)، فذكر نحو حديث الباب قال: (فقلت له: أَقَبْل المائدة أو بعدها؟ قال: ما أسلمت إلا بعد المائدة)، قال الترمذي: هذا حديث مفسر؛ لأنَّ بعض من أنكر المسح على الخفين تأوَّل أن مسح النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم على الخفين كان قبل نزول آية الوضوء التي في (المائدة)، فيكون منسوخًا، فذكر جرير في حديثه أنَّه رآه يمسح بعد نزول (المائدة)، فكان أصحاب ابن مسعود يعجبهم حديث جرير؛ لأنَّ فيه ردًّا على أصحاب التأويل المذكور.

قال إمام الشَّارحين: قلت: قال الله تعالى في سورة (المائدة) : {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ...}؛ الآية [المائدة: ٦]، فلو كان إسلام جرير متقدمًا على نزول (المائدة)؛ لاحتمل كون حديثه في مسح الخفين منسوخًا بآية (المائدة)، فلما كان إسلام جرير متأخرًا؛ علمنا أنَّ حديثه يعمل به، وهو مبيِّن أن المراد بآية (المائدة) : غير صاحب الخف، فتكون السنة مخصصة الآية، وفي «سنن» البيهقي عن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه قال: (ما سمعت في المسح على الخفين أحسن من حديث جرير رضي الله عنه)، وقد ورد مؤرخًا بحجة الوداع في حديث الطبراني كما ذكرناه.

ثم قال رضي الله عنه: واعلم أنَّه قد وردت في المسح على الخفين عدة أحاديث تبلغ التواتر على رأي كثير من العلماء.

وقال الميموني عن أحمد ابن حنبل: فيها سبعة وثلاثون صحابيًّا، وفي رواية الحسن بن محمد عنه أربعون صحابيًّا، كذا قاله البزار في «مسنده»، وقال ابن أبي حاتم: أحد وأربعون صحابيًّا، وفي «الأشراف» عن الحسن: حدثني به سبعون صحابيًّا، وقال ابن عبد البر: مسح على الخفين سائر أهل بدر والحديبية وغيرهم من المهاجرين والأنصار، وسائر الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وعامة أهل العلم والأثر، ولا ينكره إلا مخذول مبتدع خارج عن جماعة المسلمين.

وقال في «البدائع» : المسح على الخفين جائز عند عامة الفقهاء وعامة الصحابة إلا شيئًا روي عن ابن عباس: أنه لا يجوز، وهو قول الرافضة.

ثم قال: وروي عن الحسن البصري أنَّه قال: أدركت سبعين بدريًّا من الصحابة؛ كلُّهم يرون المسح على الخفين، ولهذا قال الإمام الأعظم رئيس المجتهدين من شرائط السنة والجماعة أن تفضل الشيخين، وتحب الختنين، وترى المسح على الخفين، وروي عنه أنَّه قال: ما قلت بالمسح حتى جاءني مثل ضوء النهار، فكان الجحود ردًّا على كبار الصحابة، ونسبته إياهم إلى الخطأ، فكان بدعة، ولهذا قال الإمام الكرخي: أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفين، انتهى.

وفي الحديث أحكام:

الأول: فيه جواز البول بمشهد الرجل، وإن كانت السنة الاستتار عنه.

الثاني: فيه أنَّ الاستنجاء غير واجب، بل سنة؛ لأنَّه عليه السَّلام بال، ثم توضأ، ثم قام فصلى، ولم يستنج.

الثالث: فيه جواز المسح على الخفين، وقد سبق في باب (المسح).

الرابع: فيه جواز الإعجاب ببقاء حكم من الأحكام، وهو يدل على عدم النسخ.

وقال ابن بطال: وهذا الباب كالباب الذي قبله في أنَّ الخف لو كان فيه قذر؛ فحكمه حكم النعل، انتهى.

يعني: أنَّه يطهر الخف ونحوه بالدلك بالأرض أو بالتراب من النجاسة التي لها جرم ولو كانت مكتسبة من غيرها؛ لحديث الباب والذي قبله.

ويدلَّ عليه ما رواه أبو داود أنه عليه السَّلام قال: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه (١)؛ فطهورهما التراب»، ورواه ابن حبان والحاكم وصححه، وهو حجة على الشافعي؛ حيث لم يجوِّز ذلك، بل شرط في طهارتهما الماء، ولا دليل له في تخصيصه الماء بذلك، وقد قدَّمنا الكلام عليه مستوفًى.

[حديث: وضأت النبي فمسح على خفيه وصلى]

٣٨٨ - وبالسند إليه قال: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ ابْنُ نَصْرٍ)؛ بالصاد المهملة نسبه لجده؛ لشهرته به، فهو إسحاق بن إبراهيم بن نصر الكوفي (قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ)؛ بضم الهمزة وفتح السين المهملة: هو حماد الكوفي، (عَنِ الأَعْمَشِ) : هو سليمان بن مهران الكوفي، (عَنْ مُسْلِمٍ)؛ بضم الميم وسكون السين المهملة: هو ابن صبيح؛


(١) في الأصل: (بخفه)، ولعله تحريف.

<<  <   >  >>