ولا ينثر فيه نبل، ولا يمرُّ فيه بلحم نيء، ولا يضرب فيه حدٌّ، ولا يقتص فيه من أحد، ولا يتخذ سوقًا»، وروي أيضًا من حديث الحارث بن نبهان؛ وهو متروك الحديث، عن عتبة بن يقظان؛ وهو غير ثقة، عن أبي سعيد؛ وهو مجهول الحال والعين، عن مكحول، عن واثلة؛ وأنكر سماعه منه ابن مسهر والحاكم، وقال البخاري في «تاريخه الأوسط» سمع منه: أنَّ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «جنبوا مساجدنا صبيانكم ومجانينكم، وشراءكم وبيعكم، وخصوماتكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسلَّ سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجمِّروها في الجُمَع»، وعنده أيضًا من حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما: «نزِّهوا المساجد ولا تتخذوها طرقًا، ولا تمر فيه حائض، ولا يقعد فيه جنب إلا عابري سبيل، ولا ينثر فيه نبل، ولا يسلُّ فيه سيف، ولا يضرب فيه حد، ولا ينشد فيه شعر، فإن أنشد؛ فقل: فضَّ الله فاك».
ويستفاد من الحديث تأكيد حرمة المسلمين؛ لأنَّ المساجد مورودة بالخلق لا سيما في أوقات الصلوات، وهذا التأكيد من النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّه خشي أن يؤذى بها أحد، وفيه: كريم خلقه ورأفته عليه السَّلام بالمؤمنين، وفيه: التعظيم لقليل الدم وكثيره، وفيه: أنَّ المسجد يجوز فيه إدخال السلاح) انتهى، والله أعلم.
(٦٧) [باب المرور في المسجد]
هذا (باب) حكم (المرور) بالنبل (في المسجد) : الألف واللَّام فيه للجنس، فيشمل كلَّ مسجد، وتقدير الحكم أولى من تقدير الجواز؛ كما فعله العجلوني؛ لأنَّ الحكم أعمُّ، وإن كان المراد به الجواز؛ والتقدير: باب جواز المرور بالنبل في المسجد إذا أمسك نصالها.
قال إمام الشَّارحين: (وفي هذه التَّرجمة نوعُ قصورٍ على ما لا يخفى) انتهى، قلت: وجه القصور: أنَّ المؤلف أطلق ترجمته وكان عليه أن يقيِّدها بقوله: بابالمرور في المسجد بالنبل إذا أمسك نصالها؛ فافهم.
[حديث: من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها]
٤٥٢ - وبالسند إلى المؤلِّف قال: (حدثنا موسى بن إسماعيل) : هو المنقري التَّبوذكي البصري (قال: حدثنا عبد الواحد) : هو ابن زياد، العبدي مولاهم، البصري (قال: حدثنا أبو بُرْدة)؛ بِضَمِّ الموحَّدة، وسكون الرَّاء: هو بُريد؛ مصغَّر بَرْد، ضدُّ الحَرِّ (بن عبد الله) : هو ابن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري الكوفي (قال) أي: أبو بردة (سمعت) جدي (أبا بردة) : هو عامر، فأبو بردة الأصغر يروي عن جده أبي بردة الأكبر؛ وهو يروي (عن أبيه) : هو أبو موسى، واسمه عبد الله بن قيس الأشعري الصَّحابي الجليل رضي الله عنهما.
وزعم العجلوني أنَّه وقع في القسطلاني تسمية أبي موسى بعامر، وهو سبق قلم؛ فاعرفه.
قلت: لم يسبق قلم القسطلاني إلى ذلك، وإنَّما قال: (سمعت جدي أبا بردة عامرًا عن أبيه أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس) : هكذا عبارته في جميع النُّسخ، وكأنَّ العجلوني سبق قلمه إلى هذا الكلام، وهو غير صواب؛ فافهم.
(عن النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنَّه (قال: من مر في شيء) أي: مسجد (من مساجدنا) أي: المسلمين (أو) مر في سوق من (أسواقنا)؛ أي: المسلمين، وهذا يدل على أنَّ المسلم إذا مر بها في كنيسة أو بيعة أو سوق كفار؛ لا يطلب منه أن يأخذ بنصالها؛ لأنَّ الكافر لا حرمة له، وقد يقال: إنَّ لهم مالنا، وعليهم ما علينا، ويمكن أن يقال: المراد من عدم الأخذ بنصالها: هو بيان استعلاء المسلمين على الكافرين، وحرمتهم عليهم، وتذكيرًا لهم بعدم المخالفة، وتنبيهًا على أنَّهم إن خالفوا؛ فدواؤهم السيف في أعناقهم؛ فليحفظ، قال إمامنا الشَّارح: (وكلمة «من» موصولة تضمنت معنى الشرط في محل رفع على الابتداء، وخبره قوله: «فليأخذ»، وكلمة «أو» للتنويع من الشَّارع، وليست للشك من الراوي) انتهى، وقوله (بنبل) : متعلق بـ (مر)، والباء فيه للمصاحبة؛ ومعناه: من مر مصاحبًا للنبل، وليست الباء فيه للإلصاق؛ مثل: مررت بزيد، كذا في «عمدة القاري»، ويحتمل أن الجار والمجرور حال من ضمير قوله: (مرَّ)؛ فتأمل، و (النَّبل)؛ بفتح النُّون وسكون الموحَّدة: السهام العربية، مؤنثة لا واحد لها من لفظها، كما قدمناه، وقوله: (فليأخذ على نصالها) : جواب (مَنْ) الموصولة أو خبرها، زاد الأصيلي: (بكفه)، و (على نصالها) متعلق بـ (يأخذ) لتضمنه معنى الاستعلاء للمبالغة، فعديت بـ (على)، وإلا فالوجه تعديته بالباء، ويحتمل أن (على) بمعنى الباء؛ كما هي في رواية حمَّاد بن عمرو من طريق ثابت عن أبي بردة، (لا يعقرُ)؛ أي: لا يجرح، وهو مرفوع، ويجوز الجزم نظرًا إلى أنَّه جواب الأمر، قاله إمام الشَّارحين، وجوز القسطلاني تبعًا لـ «المصابيح» جزمه بـ (لا) الناهية، والظَّاهر: أن الرواية بالرفع، ويحتمل أنها بالجزم؛ فافهم، وفي «القاموس» : (العقر: الجرحُ وأثرٌ كالحز في قوائم الفرس والإبل، والعقيرة: ما عقر من صيد أو غيره، واعتقر الظهر من الرحل والسرج) انتهى، (بكفه مسلمًا) : الباء فيه تتعلق بقوله: (فليأخذ) لا بقوله: (لا يعقر)، فإن العقر بالكف لا يتصور.
ووقع في رواية الأصيلي: (فليأخذ على نصالها بكفه لا يعقر مسلمًا)، كذا قاله إمام الشَّارحين.
وقال الكرماني: (يحتمل أن يراد منه: كف النفس؛ أي: لا يعقر بكفه نفسه عن الأخذ؛ أي: لا يجرح بسبب تركه أخذ النصال).
واعترضه إمام الشَّارحين، فقال: لا يبعد هذا الاحتمال، ولكن الأول راجح، ويؤيده رواية مسلم من حديث أبي أسامة: «فليمسك على نصالها بكفه أن يصيب أحدًا من المسلمين»، وله من طريق ثابت عن أبي بردة: «فليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها» انتهى.
قلت: وعلى هذا يتعين المعنى الأول، ويكون هو الصَّواب، وما ذكره الكرماني بعيد عن الصَّواب، فإن الأول قد تبعه فيه صاحب «التنقيح» والقسطلاني وغيرهما، فليكن هو الصَّواب؛ فافهم.
قال إمام الشَّارحين: (وجه مطابقة الحديث للتَّرجمة في قوله: «مَن مرَّ»؛ فإنَّه صرح فيه بلفظ المرور، وجعله شرطًا، ورتَّب عليه الجزاء، وهو قوله: «فليأخذ»، فدلَّ هذا على جواز المرور في المسجد بنبل يأخذ نصالها، وبهذا التقدير: يحصل الجواب عن سؤال الكرماني حيث قال: «فإن قلت: ما وجه تخصيص هذا الحديث -يعني: حديث أبي موسى- بهذا الباب، وتخصيص الحديث السَّابق -يعني: حديث جابر المذكور- بالباب السَّابق مع أن كلًّا من الحديثين يدل على كل من التَّرجمتين؟»، وتقدير الجواب: هو أنَّه نظر إلى لفظ الرسول عليه السَّلام، حيث لم يكن في الأول لفظ المرور في لفظ الرسول عليه السَّلام، وفي الثاني ذكره معقودًا بالوجه الذي ذكرناه) انتهى كلام إمام الشَّارحين، وانتهت الجهالة لابن حجر، فذكر كلامًا لا يليق بهذا المقام؛ فاجتنبه.
(٦٨) [باب الشِّعر في المسجد]
هذا (باب) حكم إنشاد (الشِّعْر في المسجد)؛ بكسر [الشين المعجمة، وإسكان] العين المهملة، وهو الكلام الموزون المقفَّى، والألف واللَّام في (المسجد) : للجنس، فيشمل مسجد النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وغيره