للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وقُرئ: بيائين خالصتين بدل الهمزة، جعله من صبا ناب البعير، ومن لم يهمزه؛ يحتمل أن يجعله من المهموز، ويبدل همزة (صابئ) حرف علة؛ للتخفيف إما إلى ياء، أو إلى واو، ثم يعل كإعلال قاض أو غاز، إلا أن سيبويه لا يرى قلب هذه الهمزة إلا في الشِّعر، والأخفش وأبو زيد يريان ذلك مطلقًا، ويحتمل أن يجعله من صبا يصبو؛ إذا مال، فأعلَّ (الصابئ) كإعلال (الغازي).

واختلف العلماء في تفسيره، فقال أبو العالية: هم (فرقة)؛ أي: طائفة (من أهل الكتاب يقرؤون الزَّبور) ويصلُّون إلى الكعبة، فهم مصدقون بقلوبهم بجميع ما يجب أن يصدق به دينهم قبل أن ينسخ، فأخبر سبحانه عنهم بأن لهم أجرًا جزيلًا (١) ولا خوف عليهم ولا حزن؛ لأنَّ أصل دينهم دين نوح عليه السَّلام، وكان دينًا حقًّا قبل أَنْ يُنْسخ، وهذا قول الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، وهو قول أبي العالية، وقتادة، والسدي، وأبي جعفر الرازي، فهم كأهل الكتاب في حل ذبائحهم، ونكاح نسائهم؛ لأنَّهم يقرؤون الزبور، ويُعْظِّمون الكواكب تعظيم القبلة حيث يتوجهون إليها في صلاتهم، كما يتوجه المسلمون إلى الكعبة، ويقولون: إن الله تعالى أمر بتعظيم هذه الكواكب واتخاذها قِبلةً للصَّلاة والدُّعاء.

وقال أبو زيد: (الصَّابئون أهل دينٍ من الأديان، كانوا بجزيرة الموصل، يقولون: لا إله إلا الله)، وقال الحسن: (أخبر زياد: أَنَّ الصابئين يصلون للقِبلة، ويصلُّون الخمس)، قال: فأراد أن يضع عليهم الجزية فأخبر بعد أَنَّهم يعبدون الملائكة.

وقال مُجَاهِد: (هم فرقة بين المجوس واليهود).

وقال ابن الأنباري: (هم فرقة من النصارى، قولهم أكبر من قول النصارى)، وعلى هذا؛ فلا دين لهم، ولا أجر، بل هم ممن باؤوا بغضب من الله، فلا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم، وهذا قول الإمامين أبي يوسف ومحمَّد بن الحسن، وهو قول الحسن البصري، وابن أبي نجيح.

قلت: وظاهر الآية الشريفة يردُّ هذا؛ لأنَّ قوله تعالى: {إِنَّ الذينَ آمَنُوا}؛ المؤمنون حقًّا: المتديِّنون بدين النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، والذين هادوا: اليهود الذين تابوا ولم يغيروا، والنصارى: نصارى عيسى عليه السلام، والصابئين: الخارجون من الباطل إلى الحق من آمن بالله؛ دام منهم على الإيمان به {وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: ٦٢]، فلو كان كما قالوا؛ لما وعدهم سبحانه بالأجر وعدم الخوف والحزن؛ لأنَّ المستحق لذلك هو المتدين بدين الحق، والمقيم عليه وعلى العمل الصَّالح، على أَنَّ هذا الاختلاف مبنيٌ على أنهم عبدة الأوثان؛ لأنَّهم يعبدون الكواكب، فالجُمهور على أنهم يعظِّمون الكواكب كتعظيم المسلم الكعبة، وعلى هذا؛ فيجوز أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم بالإجماع، كما لا يخفى، والله تعالى أعلم.

(٧) [باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش تيمم]

هذا (بابٌ)؛ بالتنوين في بيان (إذا خاف الجنب) أي: الذي يجد الماء وهو صحيح مقيم في المصر، والمراد بالخوف: غلبة الظنِّ عن أمارة أو تجربة صحيحة، أو إخبار طبيب مسلم حاذق غير ظاهر الفسق، وقيل: عدالته شرطٌ (على نفسه المرض) إن اغتسل بالماء، وكذا إذا خاف تلف عضو من أعضائه، أو كان مريضًا، فخاف أن يزيد مرضه أو بطؤه؛ فإِنَّهُ يتيمم عند الإمام الأعظم، وقال الإمامان أبو (٢) يوسف، ومحمَّد بن الحسن: لا يتيمم، قال الإمام الجليل قاضيخان: (الجُنُب الصحيح في المِصْر إذا خاف الهلاك من الاغتسال؛ يُباح له التيمم عند الإمام الأعظم خِلافًا للصاحبين) انتهى.

وكذا لو كان صحيحًا فخاف حدوث مرض؛ فإنه يتيمم، كذا في شرح «النقاية» للعلامة القهستاني فَعُلِم أَنَّ اليسير من المرض لا يبيح التَّيمم، وهو قول الجمهور، كذا في «البحر»، وهذا قول الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، وقال مالك، والثَّوري: إذا خاف الجنب على نفسه المرض؛ يُبَاح له التَّيمم مع وجود الماء، ويلحق به خوف الزيادة، وهو الأصح عند الشَّافعي، وفي رواية عن مالك: بالمنع، وبه قال أحمد، وقال عطاء، والحسن البصري: لا يُبَاح التيمم بالمرض أصلًا، وكرهه طاووس، وإنَّما يجوز له التَّيمم عند عدم الماء، فأما مع وجوده؛ فلا يجوز، وهو قول الإمامين كما سبق، وإن كان المرض لا يلحقه باستعمال الماء ضررٌ كالصداع والحمى؛ لا يجوز له التَّيمم، كذا في «الحلية»، وهو رواية عن مالك، وقال داود: يجوز، وهو رواية عن مالك أيضًا، ولا فرق عند الإمام الأعظم في زيادة المرض بين أن يزداد بالتحرك؛ كالمبطون، أو باستعمال؛ كالجدري، كما صَرَّح به في «منهل الطُّلاب»، فلو خاف من استعمال الماء شيئًا في المحل؛ يجوز له التَّيمم عندنا للضَّرورة الدَّاعية، وهي كونه يصير مشوه الخِلقة، وربما يسود وجهه، أو تتعطل عينه، أو أنفه، أو غير ذلك، وهو قولٌ للشَّافعي، وفي آخر عنه: إنَّه لا يجوز، وتمامه في «عُمدة القاري»، (أو) خاف الجُنُب على نفسه (الموت) إنِ استعمل الماء حيث يقتله البرد؛ فيُبَاح له التيمم، وهذا بلا خلاف، وذكر قاضيخان اختلاف الرِّواية عن الإمام الأعظم، فجوَّزه شيخ الإسلام، ومنه شمس الأئمَّة السَّرخسي.

قلتُ: والجواز قول الإمام الأعظم، والمنع قول الإمامين أبي يوسف ومُحمَّد بن الحسن، وأما الجُنُب المسافر إذا خاف الهلاك من الاغتسال؛ فيجوز له التَّيمم عندنا اتفاقًا، كما صرَّح به في «الخانية»، وقيَّد المؤلف بالجنب احترازًا عن المُحدِث؛ لما في «الخانية» : المحدث في المصر إذا خاف الهلاك من التَّوضؤ، اختلفوا فيه على قول الإمام الأعظم، والصَّحيح أنه لا يُبَاح له التيمم، وذكر


(١) في الأصل: (أجر جزيل)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (أبي).

<<  <   >  >>