قيل: من أنه مجتهد؛ فغير صحيح وتعصب؛ لأنَّه لم يعلم له مذهب ولا أصحاب ولا كتب، غاية الأمر أنه تفقه في مذهب الإمام الأعظم حتى صار نحريرًا، ثم أخذ الحديث، وصار في علم الحديث إمامًا، وقال يحيى ابن بكير: (الليث أفقه من مالك، ولكن كانت الحظوة لمالك)، وقال محمد بن إدريس: (الليث أفقه من مالك، وكأنه أخذ عنه الفقه)، وعلى هذا؛ فمحمد بن إدريس من أتباع أتباع الإمام الأعظم؛ لأنَّ الليث أخذ وتفقه على الإمام محمد بن الحسن، وهو عن الإمام الأعظم، لكن الصحيح أن محمد بن إدريس أخذ الفقه وتفقه على الإمام محمد بن الحسن، كما ذكره ابن حجر في أول «التحفة» للرملي الشافعي؛ فافهم ذلك، ولا تغتر بكلام أهل التعصب والعناد.
(عن ابن شهاب) : هو محمد بن مسلم الزهري، (عن عبيد الله بن عبد الله)؛ بالتصغير في الأول، والتكبير في الثاني (بن عُتْبة)؛ بضم العين المهملة، وسكون الفوقية: هو ابن مسعود رضي الله عنه، (عن أبي سعيد) : هو سعْد بن مالك؛ بسكون العين المهملة (الخُدْري) بضم الخاء المعجمة، وسكون المهملة، الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه (أنه قال: نهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن اشتمال الصماء)؛ بالصاد المهملة، والمد، واختلف في تفسيره؛ ففي «الصحاح» : (هو أن يُجَلِّل جسده كله بالإزار وبالكساء، فيرده من قبل يمينه على يده اليسرى، وعاتقه الأيسر، ثم يرده ثانيًا من خلفه على يده اليمنى، وعاتقه الأيمن، فيغطيهما جميعًا)، وفي «نهاية ابن الأثير» : (هو التجلل بالثوب وإرساله من غير أن يرفع جانبه)، وفي كتاب (اللباس) : (هو أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه، فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب)، وعن الأصمعي: (هو أن يشتمل بالثوب حتى يجلل به جسده لا يرفع منه جانبًا، فلا يبقى ما يخرج منه يده)، وعن أبي عبيد: (أن الفقهاء يقولون: هو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه، فيضعه على أحد منكبيه، فيبدو منه فرجه).
وقال إمام الشَّارحين: (وتحقيق هذه الكلمة: أن الاشتمال مضاف إلى الصماء، والصماء في الأصل: صفة، يقال: صخرة صماء: إذا لم يكن فيها خرق ولا منفذ، ومعنى النهي عن اشتمال الصماء؛ أي: نهى عن اشتمال الثوب؛ كاشتمال الصخرة الصماء، واشتمالها كون عدم الخرق والمنافذ فيها، وتشبيه الاشتمال المنهي بها كونها تسدُّ المنافذ كلها، والذي ذكره الكرماني من أن اشتمل الشملة التي تعرف بهذا الاسم؛ لأنَّ الصماء ضرب من الاشتمال، ليس تفسير ما في لفظ الحديث على ما لا يخفى) انتهى.
قلت: فسميت الصماء؛ لسد المنافذ كلها، فيكون النهي مكروهًا؛ لعدم قدرته على الاستعانة بيديه فيما يعرض له في الصلاة؛ كدفع الهوام ونحوها، ولهذا قال إمام الشَّارحين: (ففيه: أنه عليه الصَّلاة والسَّلام قد نهى عن اشتمال الصماء، وقالوا على تفسير أهل اللغة: إنَّما يكرهاشتمال الصماء؛ لئلا تعرض له حاجة من دفع بعض الهوام ونحوها أو غير ذلك، فيعسر أو يتعذر عليه إخراج يده، فيلحقه الضرر، وعلى تفسير الفقهاء: يحرم الاشتمال المذكور إن انكشف به بعض العورة، وإلا؛ فيكره) انتهى.
(وأن يحتبي)؛ أي: ونهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أيضًا عن أن يحتبي (الرجل) وكلمة (أن) مصدرية؛ والتقدير: عن احتباء الرجل، وهو أن يقعد الإنسان على إليتيه، وينصب ساقيه، ويحتوي عليهما (في ثوب واحد) : أو بيده أو نحوها (ليس على فرجه منه)؛ أي: من الثوب ونحوه (شيء) : واسم هذه القعدة تسمى: الحُِبوة؛ بضم الحاء وكسرها، وقد كان هذا الاحتباء عادة للعرب في أنديتهم ومجالسهم، فإن كان ينكشف معه شيء من عورته؛ فهو حرام مطلقًا، سواء كان في الصلاة أو خارجها، وأما إذا كان مستور العورة؛ فلا يحرم، بل يكره، وقال الخطابي: (الاحتباء: هو أن يحتبي الرجل في الثوب ورجلاه متجافيتان عن بطنه، فيبقى هناك إذا لم يكن الثوب واسعًا قد أسبل شيئًا منه على فرجه، وفرجه تبدو منها عورته، وهو منهي عنه إذا كان كاشفًا عن فرجه)، وقال في موضع آخر: (الاحتباء: أن يجمع ظهره ورجليه بثوب) انتهى.
قلت: فقد اضطرب كلامه، وهو تناقض، والذي ذكره أهل اللغة والفقهاء: هو أن يندرج في ثوب بحيث لا يدع فيه منفذًا يخرج يديه منه، ولم يتعرضوا لذكر الرجلين؛ لعدم اعتبارهما في ذلك، ومفهوم كلامه أن المراد من العورة السوءتان؛ لأنَّه قال: (وهو منهي عنه إذا كان كاشفًا عن فرجه)، وليس هذا بمراد، بل المراد من العورة: من السرة إلى الركبة، يدل عليه تصرف المؤلف في هذه الأحاديث التي ترجم لها، وكلها دالة على أن الواجب ستر العورة، وأن العورة: هي من السرة إلى الركبة، والتقييد بـ (الفرج) باعتبار الأغلظ والأفحش لا للتخصيص، بل المراد العورة بتمامها، فإن الحديث الثاني والثالث يدلان على ذلك، والأحاديث تفسر بعضها بعضًا، وقد أشبعنا الكلام على ذلك أول الباب؛ ردًّا على ابن حجر، وكأنه قد تبع الخطابي في ذلك، وكلاهما غير مصيب، كما لا يخفى.
وقال إمام الشَّارحين: (ومطابقة هذا الحديث للترجمة في قوله: «ليس على فرجه منه شيء»، فإن فيه أن يكون الفرج مكشوفًا، فهو يدل على أن ستر العورة واجب، والباب معقود في ستر العورة) انتهى.
[حديث: نهى النبي عن بيعتين عن اللماس والنباذ]
٣٦٨ - وبالسند إليه قال: (حدثنا قَبِيْصَة) بفتح القاف، وكسر الموحدة، وسكون التحتية، وفتح الصاد المهملة (بن عُقْبة) بضم العين المهملة، وسكون القاف، وليس في رواية الأصيلي: (ابن عقبة) (قال: حدثنا سفيان) : هو الثوري، (عن أبي الزِّناد)؛ بكسر الزاي وبالنون: هو عبد الله بن ذكوان، (عن الأعرج) : هو عبد الرحمن بن هرمز التابعي، (عن أبي هريرة) : هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه (قال: نهى النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم عن بيعتين)؛ تثنية بيعة؛ بفتح الموحدة وكسرها، والفرق بينهما: أن الفَعلة؛ بالفتح: للمرة، وبالكسر: للحالة والهيئة، كما في «عمدة القاري»، والفتح هو الذي في «الفرع»، كما قاله القسطلاني، ثم قال: (وهو المشهور على الألسنة، لكن الأحسن الكسر) انتهى.
قلت: وفيه نظر؛ فإنه إذا كان الفتح ثابتًا في «الفرع»؛ فلا اعتبار؛ لاشتهاره على الألسنة؛ لأنَّه لا يعتد به، فكم من اشتهر على الألسنةِ! وهو خطأ والصواب خلافه، فلو أسقطها؛ لكان أولى، وهو من هفواته.
وقوله: (لكن الأحسن الكسر) : مسلَّم؛ لأنَّ المراد بالبيعة هنا: الهيئة والحالة؛ كالركبة والجلسة؛ فافهم، ولهذا سوى إمام الشَّارحين بين الفتح والكسر، وأحال الأحسن منهما على المراد به ههنا، كما يقتضيه السياق؛ فليحفظ أحدهما.
(عن اللِّماس)؛ بكسر اللام، وهو مصدر من لامس، من باب (فاعل)، وقد علم أن مصدره يأتي على (مفاعلة)؛ مثل: ملامسة، وعلى (فعال)؛ مثل: لماس؛ وهو لمس الثوب بلا نظر إليه، وفيه وجوه؛ أحدها: أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة، فيلمسه المشتري، ويقول له صاحبه: بعتكه بكذا بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك، وخيارك إذا رأيته، الثاني: أن يجعلا نفس اللمس بيعًا، فيقول: إذا لمسته؛ فهو مبيع لك، والثاني ما أشار إليه بقوله: (و) عن (النِّباذ)؛ بكسر النون، وبالذال المعجمة، يأتي من بابه (فعال)؛ مثل: نباذ، وعلى