أنه قال: {مقَامِ إِبْرَاهِيمَ} : الحرم كله، وروي مثله عن مجاهد وعطاء، وقال السدي: (المقام: هو الحجر الذي وضعت (١) زوجة إسماعيل قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه)، وحكاه الرازي في «تفسيره» عن الحسن البصري، وقتادة، والربيع بن أنس، وضعفه القرطبي، ورجح غيره، وهو ليس بشيء؛ لأنَّه قول الجمهور، وحكى ابن بطال عن ابن عباس أنه قال: (الحج كله مقام إبراهيم).
وروى عبد الرزاق عن معمر، عن ابن أبي نجيح عنه قال: (هو عرفة، وجمع، ومنى).
وقال عطاء: (مقام إبراهيم: عرفة، والمزدلفة، والجمار).
وروى ابن أبي حاتم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: سمع جابرًا يحدث عن حجة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (لما طاف النبيُّ الأعظم؛ قال له عمر بن الخطاب: هذا مقام أبينا إبراهيم عليه السَّلام؟ قال: «نعم»، قال: أفلا نتخذه مصلًّى؟ فأنزل الله عز وجل: {وَاتَّخِذُوا...}؛ الآية).
وروى عثمان ابن أبي شيبة عن أبي ميسرة قال: (قال عمر: قلت: يا رسول الله؛ هذا مقام خليل ربنا؟ قال: «نعم»، قال: أفلا نتخذه مصلًّى؟ فنزلت).
وروى ابن مزدويه عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عمر بن الخطاب: (أنه مر بمقام إبراهيم، فقال: يا رسول الله؛ أليس نقوم مقام خليل الله؟ قال: «بلى»، قال: أفلا نتخذه مصلًّى؟ فلم نلبث إلا يسيرًا حتى نزلت)، كذا في «عمدة القاري».
وقوله: ({مُصَلًّى}) [البقرة: ١٢٥]؛ أي: مدعى يدعى عنده، مأخوذ من صليت؛ بمعنى: دعوت، قاله مجاهد، وقال الحسن: قبلة، وقال السدي وقتادة: أمروا أن يصلوا عنده، وقال الإمام الزمخشري في «تفسيره» : (موضع صلاة يصلون فيه)، وتبعه البرماوي وغيره.
قال إمام الشَّارحين: (ولا شك أن من صلى إلى الكعبة من غير الجهات الثلاث التي لا تقابل مقام إبراهيم؛ فقد أدى فرضه، فالفرض إذًا البيت لا المقام، وقد صلى الشَّارع خارجها، وقال: «هذه القبلة»، ولم يستقبل المقام حين صلى داخلها، ثم استقبل المقام، فإن المقام إنَّما يكون قبلة إذا جعله المصلي بينه وبين القبلة) انتهى.
قلت: وهذا يرجح القول الأول، ويضعف غيره، ويدل عليه أنه جار على المعنى اللغوي؛ فتأمل.
[حديث: قدم النبي فطاف بالبيت سبعًا وصلى خلف المقام]
٣٩٥ - ٣٩٦ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا الحُمَيْدي)؛ بضم الحاء المهملة، وفتح الميم، وسكون التحتية: هو عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي أبو بكر المكي، ونسبته إلى بطن من قريش، يقال له: حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى (قال: حدثنا سفيان) : هو ابن عيينة المكي (قال: حدثنا عَمْرو) بفتح العين المهملة، وسكون الميم (بن دينار) هو المكي (قال: سألنا ابن عمر) : هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهما (عن رجل)؛ يعني: عمن فعل هذا، وليس المراد رجل معين، بل جعله مثلًا لأجل تعلم الحكم فيه (طاف بالبيت) أي: الكعبة (للعمرة)؛ باللام كذا هو رواية الأكثرين؛ أي: لأجل العمرة، وفي رواية المستملي والحمُّوي: (طاف بالبيت العمرةَ)؛ بحذف اللام، وبالنصب، ولا بد من تقدير اللام؛ لأنَّ المعنى لا يصح بدونه؛ فافهم، أفاده إمام الشَّارحين.
قلت: ورواية النصب على حذف مضاف؛ أي: طواف العمرة، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
(ولم يطف) أي: لم يسع (بين الصفا والمروة) : فأطلق الطواف على السعي؛ إما لأنَّ السعي نوع من الطواف، وإما للمشاكلة، ولوقوعه في مصاحبة طواف بالبيت، قاله إمام الشَّارحين، ويجوز في (الصفا والمروة) الصرف وعدمه، فإن أريد المكان؛ انصرف، وإن أريد به العلمية والتأنيث؛ منع؛ لأنَّ (الصفا) : اسم امرأة، و (المروة) كذلك، قيل: إنه جلس عليهما امرأة مسماة بهذا الاسم، وقيل: إنَّهما امرأتان مسختا ووضعتا في ذلك المكان؛ لأنَّهما علمان على جبلين بمكة؛ فافهم.
(أيأتي امرأته) : الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستفسار؛ أي: أيجوز له الجماع؛ يعني: أحصل له التحلل من الإحرام قبل السعي بين الصفا والمروة أم لا؟ (فقال)؛ أي: عبد الله بن عمر في الجواب عن ذلك: (قدِم) بكسر الدال المهملة (النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: مكة إلى الحرم، (فطاف بالبيت)؛ أي: حول الكعبة (سبعًا) أي: سبعة أشواط، (وصلَّى خلف المقام) أي: وراء مقام إبراهيم عليه السَّلام (ركعتين)؛ بالتثنية، وهذا موضع مطابقة الحديث للترجمة، كما لا يخفى، قيل: كان إبراهيم يبني الكعبة، وإسماعيل يناوله الحجارة، فلما ارتفع البناء وضعف عن رفع الحجارة إليه؛ قام على حجر، فهو مقام إبراهيم، قاله ابن عباس رضي الله عنه، (وطاف بين الصفا والمروة)؛ بالصرف وعدمه؛ يعني: سعى، فأطلق الطواف وأراد السعي سبع أشواط، فأجاب ابن عمر بالإشارة إلى وجوب اتباع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، لا سيما في أمر المناسك؛ لقوله عليه السَّلام: «خذوا عني مناسككم»، والنبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لم يتحلل قبل السعي، فيجب التأسِّي به، وهو معنى قوله: (وقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة) : والأُسوة؛ بضم الهمزة وكسرها؛ أي: قدوة.
قال عمرو بن دينار: (وسألنا جابر بن عبد الله)؛ أي: الأنصاري عن هذا الحكم، قال إمام الشَّارحين: (ولا يدخل هذا الحديث في مسند جابر؛ لأنَّه لم يرفعه، وإنما هو من مسند ابن عمر؛ فافهم) انتهى.
(فقال) أي: جابر في الجواب عن ذلك: (لا يقربنَّها) جملة فعلية مضارعة مؤكدة بالنون الثقيلة، وهذا جواب جابر بن عبد الله بصريح النهي عنه (حتى يطوف)؛ أي: إلى أن يطوف؛ يعني: يسعى (بين الصفا والمروة) وإنما خص إتيان المرأة بالذكر وإن كان الحكم سواء في جميع المحرمات؛ لأنَّ إتيان المرأة من أعظم المحرمات.
وفي الحديث: أن السعي في العمرة واجب، وهو مذهب العلماء كافة، إلا ما حكاه القاضي عياض عن ابن عباس: أنه أجاز التحلل بعد الطواف وإن لم يسع، وهو ضعيف ومخالف للسنة.
وفيه: أن الطواف لا بد فيه من سبعة أشواط.
وفيه: الصلاة ركعتين خلف المقام، فقيل: إنها سنة، وقيل: واجبة، وقيل: تابعة للطواف، فإن كان الطواف سنة؛ فالصلاة سنة، وإن كان واجبًا؛ فالصلاة واجبة، كذا قرره إمام الشَّارحين صاحب «عمدة القاري» رحمه الكريم الباري، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله.
(١) في الأصل: (وضعته)، وليس بصحيح.