للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الصلاة على القبور، ولكنَّها مكروهة.

(ورأى عمر) هو ابن الخطاب -كما في رواية الأصيلي- القرشي، العدوي، المدني، ثاني خلفاء سيد المرسلين (أنس بن مالك) هو الأنصاري خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (يصلي عند قبر) شامل لما أنه صلى عليه، أو إليه، أو بينهما، (فقال: القبرَ القبرَ)؛ بالنصب فيهما على التحذير، محذوف العامل وجوبًا، وهو اتقِ أو اجتنب، وفي بعض الروايات بهمزة الاستفهام؛ أي: أتصلي عند القبر؟ (ولم يأمره بالإعادة)؛ أي: لم يأمر عمر أنسًا بإعادة صلاته تلك، فدلَّ على أنَّه يجوز، ولكنَّه يكره؛ لأنَّ فيه التشبه بأهل الكتاب، كما يدلُّ عليه الحديث الآتي، وتعليل القسطلاني الكراهة بأنَّه صلى على نجاسة ولو كان بينهما حائل؛ ممنوع؛ فإنَّ النجاسة مفقودة ههنا، ولو كان فيه نجاسة؛ لما صحت الصلاة، على أنَّ هذا التعليل مخالف لصريح الحديث الآتي؛ لأنَّ صريحه أنَّ علة الكراهة التشبه بأهل الكتاب، كما لا يخفى.

وهذا التعليق رواه وكيع بن الجراح في «مصنفه» على ما حكاه ابن حزم عن سفيان بن سعيد، عن حُميد، عن أنس قال: رآني عمر أصلي عند قبر، فنهاني، وقال: القبر أمامك، قال: وعن معمر، عن ثابت، عن أنس قال: رآني عمر أصلي عند قبر، فقال لي: القبر لا يصلى إليه، قال ثابت: فكان أنس يأخذ بيدي إذا أراد أن يصلي، فيتنحى عن القبور، ورواه أبو نُعيم شيخ المؤلف عن حريث بن السائب قال: سمعت الحسن يقول: بينا أنس يصلي إلى قبر؛ فناداه عمر: القبرَ القبرَ، وظنَّ أنَّه يعني القمر، فلمَّا رأى أنَّه يعني القبر؛ تقدم، وصلى، وجاز القبر، كذا قاله إمام الشَّارحين، ثم قال: (واختُلف في جواز الصلاة على القبور، فذهب أحمد ابن حنبل: إلى تحريم الصلاة في المقبرة، ولم يفرق بين المنبوشة وغيرها، ولا بين أن يفرش عليها شيء يقيه من النجاسة أم لا، ولا بين أن يكون بين القبور، أو في مكان منفرد عنها؛ كالبيت، أو العلو أم لا) انتهى.

قلت: والمشهور عن أحمد: عدم صحة الصلاة، قال في «تنقيح المقنع» : (ولا تصح الصلاة تعبدًا في مقبرة غير صلاة الجنازة، ولا يضر قبران ولا ما دفن بداره)؛ فافهم

وذهب الإمام الأعظم وأصحابه والثوري والأوزاعي: إلى كراهة الصلاة في المقبرة والحمَّام، ولم يرَ مالك بالصلاة في المقبرة بأسًا، وحكى أبو مصعب عن مالك: كراهة الصلاة في المقبرة، كما ذهب إليه الجمهور، وقال في «إمداد الفتاح» نقلًا عن «الفتاوى» : (لا بأس بالصلاة في المقبرة إذا كان فيها موضع معدٌّ للصلاة، وليس فيه قبر؛ لأنَّ الكراهة معللة بالتشبه بأهل الكتاب، وهو منتفٍ فيما كان على الصفة المذكورة) انتهى.

قلت: وتعبيره: بـ (لا بأس) يفيد أنَّه خلاف الأولى، ويجمع بينهما بأنَّ الكراهة في المقبرة؛ للتحريم، وفيما أُعدَّ للصلاة؛ للتنزيه؛ لحديث ابن عمر: (أنَّه عليه السَّلام نهى أن يُصلى في سبعة مواطن، وعدَّ منها المقبرة...)؛ الحديث، رواه الترمذي وابن ماجه، والنهي يقتضي التحريم، وهو يتناول المقبرة وما فيه قبر، أمَّا الذي أُعدَّ منها للصلاة؛ فلا كراهة؛ يعني: تحريمية، بل هو خلاف الأولى، وكذا يكره أن يتوجه المصلي إلى قبر النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، أو إلى قبر غيره من الأنبياء عليهم [السلام]، أو قبر الصحابة، والتابعين، والأولياء المكرمين؛ لأنَّ في ذلك كله التشبه بأهل الكتاب، وزعم أبو ثور أنَّه لا يصلى في حمام ولا مقبرة؛ لظاهر الحديث السابق.

وقال الرافعي: (أمَّا المقبرة؛ فالصلاة فيها مكروهة بكل حال).

وفرَّق الشافعي بين المنبوشة وغيرها، فإن كانت مختلطة التراب بلحوم الموتى وصديدهم وما يخرج منهم؛ لم تجز الصلاة فيها؛ للنجاسة، وإن صلَّى في مكان طاهر منها؛ صحَّت.

قلت: وهذا كلُّه خلاف الحديث، فإنَّ صريحه يدلُّ على الكراهة في كل حال، كما لا يخفى، وحكى ابن حزم عن خمسة من الصحابة النهي عن ذلك، وهم: عمر، وعلي، وأبو هريرة، وأنس، وابن عبَّاس، رضي الله عنه، وزعم أنَّه ما يَعْلم لهم مخالفًا من الصحابة، وحكاه عن جماعة من التابعين، وهم: النخعي، وابن جبير، وطاووس، وعمرو بن دينار، وخيثمة، وغيرهم.

واعترضه إمام الشَّارحين فقال: (وقوله: «ما نعلم لهم مخالفًا» معارض بما حكاه الخطابي في «معالم السنن» عن عبد الله بن عمر: أنَّه رخَّص الصلاة في المقبرة، وحُكي أيضًا عن الحسن البصري: أنَّه صلى في المقبرة.

وفي «شرح الترمذي» : «حكى أصحابنا خلافًا في الحكمة في النهي عن الصلاة في المقبرة، فقيل: المعنى فيه: ما تحت مصلاه من النجاسة، وقيل: المعنى فيه: حرمة الموتى»، قال ابن الرفعة: «فينبغي أن تقيَّد الكراهة بما إذا حاذى الميت، أمَّا إذا وقف بين القبور بحيث لا يكون تحته ميت ولا نجاسة؛ فلا كراهة، ولا فرق في الكراهة بين أن يصلي على القبر، أو بجانبه، أو إليه، ومنه يؤخذ: أنَّه تكره الصلاة بجانب النجاسة وخلفها) انتهى.

قلت: وقول الترمذي: (حكى أصحابنا خلافًا...) إلى آخره ممنوع؛ فإن علَّة الكراهة على التحقيق إنَّما هو التشبُّه بأهل الكتاب، كما هو صريح الحديث الآتي.

وقوله: (وقيل المعنى فيه: ما تحت مصلاه من النجاسة) ممنوع، فإن النجاسة إذا كانت في جوف الأرض، وصلَّى على أعلاها؛ فكيف يضرُّ صلاته؟ وما هو إلا بعيد عن القول.

وقوله: (وقيل: لحرمة الموتى) ممنوع؛ فإن الموتى بصلاة المرء عندهم تنزل عليهم الرحمة، فالحرمة فيهم في عدم نبش قبورهم، لا في الصلاة عليها، كما لا يخفى، وعلى كلٍّ؛ فالنهي يقتضي كراهة الصلاة في المقبرة، وهو حجَّة على أهل الظاهر حيث قالوا: تحرم الصلاة في المقبرة، سواء كانت مقابر المسلمين أو الكفار، وعلى أبي ثور، كما تقدم، وتمامه في «عمدة القاري».

[حديث: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا...]

٤٢٧ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمد بن المثنَّى)؛ بفتح النون المشددة بعد المثلثة، هو البصري (قال: حدثنا يحيى)؛ هو ابن سعيد القطان البصري، (عن هشام) هو ابن عروة (قال أخبرني) بالإفراد (أبي)؛ هو عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة) ولابن عساكر: (عن عائشة أم المؤمنين)، وفي رواية الإسماعيلي من هذا الوجه: (قال: أخبرتني عائشة)؛ وهي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما: (أنَّ أم حَبيبة)؛ بفتح الحاء المهملة، أم المؤمنين، واسمها: رَملة -بفتح الراء- بنت أبي سفيان صخر بن حرب الأموية، هاجرت مع زوجها عبد الله بن جحش -بتقديم الجيم على الحاء المهملة- إلى الحبشة، فتوفِّي هناك، فزوجها (١) [النجاشي] رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وبعثها إليه، وكانت من السابقات إلى الإسلام، توفِّيت سنة أربع وأربعين بالمدينة على الأصح، (وأم سلَمة)؛ فتح اللام، هي (٢) أم المؤمنين أيضًا، واسمها هند -على الأصح- بنت أبي أمية المخزومي، هاجرت مع زوجها أبو سلمة إلى الحبشة، فلما رجعا إلى المدينة؛ مات زوجها، فتزوجها رسول الله عليه السَّلام ورضي الله عنها (ذكرتا)؛ بلفظ التثنية للمؤنث من الماضي، والضمير فيه يرجع إلى أم حبيبة وأم سلمة، هكذا في رواية الأكثرين على الأصل، ووقع في رواية المستملي والحمُّوي: (ذكرا)؛ بالتذكير، وهو خلاف الأصل، والأظهر: أنَّه تحريف من النساخ، أو من بعض الرواة غير المميزين، قاله إمام الشَّارحين.

(كَنيسة)؛ بفتح الكاف، وهي معبد النصارى، ويقال لها: مارية، والمارية؛ بتخفيف التحتية: النقرة، وبتشديدها: القطاة الملساء، كذا في «عمدة القاري».

(رأينها)؛ بصيغة جمع المؤنث من الماضي، وإنَّما جمع؛ باعتبار من كان مع أم حبيبة وأم سلمة، وفي رواية الكشميهني والأصيلي: (رأيتاها) على الأصل بضمِّير التثنية (بالحبشة)؛ بفتح الحاء المهملة


(١) في الأصل: (فتزوجها)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (هم)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>