للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ونوى الإفراد سواء كان معه هدي أم لا، ولهذا لم يقيد بـ (لم يهد)، ولا بـ (أهدى)، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري»، (فليتم حجه) مطلقًا سواء كان معه هدي أم لا، (قالت) أي: السيدة عائشة الصديقة رضي الله عنها: (فحضت)؛ أي: طرأ عليها الحيض بسرف، (فلم أزل حائضًا) أي: استمر بها دم الحيض (حتى كان) هي تامة (يوم عرفة) فـ (يوم) مرفوع (ولم أُهلِل) بضمِّ الهمزة، وكسر اللام الأولى (إلا بعمرة) فيحتمل أنها فعلت العمرة بحضرة النبيِّ الأعظم عليه السلام، ويحتمل أنها فعلت ذلك وسألته بعد الفراغ، ويحتمل أنها لم تفعله، بل سألته عن ذلك، والظاهر الأول، فلما رآها عليه السلام؛ أمرها، ولهذا قالت: (فأمرني النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم أن أنقض)؛ بالقاف؛ أي: أحل وأفك (رأسي) أي: شعره، (و) أمرني أن (أمتشط) أي: أسرحه، (و) أمرني أن (أُهل) بضمِّ الهمزة وبلام واحدة آخره (بحج)؛ أي بأن أنوي الإفراد به، (و) أمرني أن (أترك العمرة) أي: أبطلها، وهذا صريح بفسخ العمرة وهو حجة على الشافعي وأصحابه؛ فافهم.

(ففعلت) أي: فعلت النقض، والامتشاط، والإهلال بالحج، وترك العمرة (حتى قضيت حجتي) بالمثناة الفوقية رواية الأكثرين، وفي رواية: (حجي) بدونها، (فبعث) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (معي) يعني: امتثلت أمره وذهبت، فبعث معي أخي (عبد الرحمن بن أبي بكر) أي: الصديق الأكبر رضي الله عنه، (فأمرني) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بالفاء العاطفة، وفي رواية بدونها؛ أي: وأمرني (أن اعتمر مكان عمرتي من التنعيم) متعلق بقوله: (اعتمر) ففيه أن الحائض تهل بالحج والعمرة وتبقى على إحرامها وتفعل ما يفعل الحاج كله غير الطواف، فإذا طهرت؛ اغتسلت وطافت وأكملت حجها، وأمر النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لها أن تنقض شعرها وتمتشط وهي حائض ليس للوجوب، وإنما ذلك؛ لإهلالها بالحج؛ لأنَّ من سنة الحائض والنفساء أن يغتسلا له، كذا في «عمدة القاري»، والله الهادي.

ومطابقة الحديث للترجمة في قولها: (وأهل بحج) فإن فيه إهلال الحائض بالحج؛ لأنَّ عائشة رضي الله عنها كانت حائضة حين أهلت بالحج، وعلى قول مَن قال: إنها كانت قارنة؛ كانت المطابقة أظهر؛ لأنَّها أحرمت بالحج وهي حائض وكانت معتمرة؛ فلهذا قالت: (أمرني النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أن أترك العمرة)، وترك الشيء لا يكون إلا بعد وجوده، أفاده إمام الشارحين رحمه أرحم الراحمين، اللهم؛ فرج عنا بكرمك يا أكرم الأكرمين آمين.

(١٩) [باب إقبال المحيض وإدباره]

هذا (باب) بيان (إقبال الحيض وإدباره) وعلامة ذلك الزمان والعادة، فإذا أقبلت عادتها؛ تحرت، وإن لم يكن لها ظن؛ أخذت بالأقل، هذا مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين، وأصحابه، والجمهور، وقال مالك: إقبال الحيض: هو الدفعة من الدم، وإدباره: إقبال الطهر، والمناسبة بين البابين من حيث وجود حكم الحيض في كل منهما، ثم أورد الأثر الذي ذكره مالك في «الموطأ» عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه مولاة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (وكن)؛ بصيغة جمع المؤنث، وفيه ضمير يرجع إلى النساء، ويسمى هذا الضمير بالضمير المبهم، وجوز ذلك بشرط أن يكون مشعرًا بما بعده، فإذا كان كذلك؛ لا يقال: إنه إضمار قبل الذكر (نساء) بالرفع؛ لأنَّه بدل من الضمير الذي في (كن)، وهذا على لغة (أكلوني البراغيث)، وفائدة ذكره بعد أن علم من لفظ (كن) إشارة إلى التنويع والتنوين فيه يدل عليه، والمراد: أن ذلك كان من بعضهن لا من كلهن، كذا في «عمدة القاري»، وزعم ابن حجر أن التنكير في النساء للتنويع، انتهى.

قلت: ورد هذا إمام الشارحين؛ حيث قال: قلت: إن لم يكن هذا مصحفًا من الناسخ؛ فهو غلط؛ لأنَّه ما ثَمَّ (١) كسر في النساء وإنما فيه الرفع، كما ذكر، أو النصب على الاختصاص، لا يقال: إنه نكرة، وشرط النصب على الاختصاص أن يكون معرفة؛ لأنا نقول: قد جاء نكرة كما جاء في معرفة، وقال الهذلي:

ويأوي إلى نسوة عطل... وشعثًا مراضيع مثل السعالي

انتهى كلامه، رحمه الباري.

وفي رواية مالك في «الموطأ» : (كان النساء) (يبعثن إلى عائشة) أي: الصديقة زوجة النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ورضي عنها (بالدُّرْجة) بضمِّ الدال، وسكون الراء المهملتين، قاله ابن قرقول، قال: (وقيل: بكسر الدال، وفتح الراء)، وعند الباجي: بفتح الدال والراء، وقال ابن قرقول: (وهي بعيدة عن الصواب)، وقال أبو المعالي: (والدرْج؛ بالتسكين: حفش النساء، والدرجة: شيء يدرج فيدخل في حياء الناقة، ثم تشمه فيقطعه ولدها قدام أمه)، وكذا ذكره القزاز، وصاحب «الصحاح»، وابن سيده، وزاد: (والدرجة أيضًا: خرقة توضع فيها دواء، ثم تدخل في حياء الناقة، وذلك إذا اشتكت منه)، وفي «الباهر» : (الدرجة؛ بالكسر، والإدراج جمع الدرج؛ وهو سقط صغير، والدرجة مثل رطبة)، وقال ابن دريد: (الدرج: سقط صغير تجعل فيه المرأة طيبها وما أشبهه)، وقال ابن قرقول: (ومن قال بكسر الدال، وفتح الراء؛ فهو عنده جمع درج؛ وهو سقط صغير؛ نحو: جرح وجرحه، ونحو: ترس وترسه)، كذا قرره إمام الشارحين، (فيها الكُرْسُف)؛ بضمِّ الكاف، وإسكان الراء، وضم السين المهملة، آخره فاء؛ وهو: القطن، كذا قاله أبو عبيد، وقال الدينوري: وزعم بعض الرواة أنه يقال له: الكرفس، على القلب، ويجمع الكرسف على كراسيف) (فيه) أي: في القطن (الصُفْرَة)؛ بضمِّ الصاد المهملة، وسكون الفاء، وفتح الراء، وهي علامة حاصلة من أثر دم الحيض بعد وضع ذلك في الفرج؛ لاختبار الطهر، وقال في «المحكم» : (وإنما اختير القطن لبياضه، ولأنَّه ينشف الرطوبة فيظهر فيه من آثار الدم ما لا يظهر من غيره)، كذا في «عمدة القاري».

(فتقول)؛ أي: عائشة رضي الله عنها، وفي الكلام حذف دل عليه رواية مالك، ولفظه: (فيه الصفرة من دم الحيض يسألنها عن الصَّلاة، فتقول لهن:) (لا تعجلْن) بسكون اللام، والمثناة التحتية، نهي لجمع المؤنث المخاطبة، ويأتي كذلك للجمع المؤنث الغائبة، ويجوز هنا الوجهان، وكذا في (ترين)؛ فافهم أفاده إمام الشارحين؛ والمعنى: لا تعجلن بإقدامكنَّ على الصَّلاة بظن الطهر، بل (حتى ترين) صيغة جمع المؤنث المخاطبة، وأصلها: (ترييين) على وزن (تفعلين)؛ لأنَّها من رأى يرأى: رؤية بالعين، وتقول للمرأة: أنت ترين، وللجماعة: أنتن ترين؛ لأنَّ الفعل للواحدة، والجماعة سواء في المواجهة في خبر المرأة من بنات الياء (٢)، إلا أن النون التي في الواحدة علامة الرفع، والتي في الجمع نون الجمع.

فإن قلت: إذا كان أصل (ترين) تريين، كيف فعل به حتى صار ترين؟

قلت: نقلت حركة الهمزة إلى الراء، ثم قلبت ألفا؛ لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت؛ لالتقاء الساكنين، فصار (ترين) على وزن (تفلن)؛ لأنَّ المحذوف منه عين الفعل وهو الهمزة فقط، ووزن الواحدة تفين؛ لأنَّ المحذوف منه عين الفعل ولامه، كذا قرره إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» رحمه الكريم الباري.


(١) في الأصل: (تم)، وهو تصحيف.
(٢) في الأصل: (الهاء)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>