للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

بن عبد الله، ومكحول، والزهري، وعبد الله بن أبي أوفى، وعبد الرحمن بن يزيد، كذا في «عمدة القاري».

قلت: وهذا دليل على جواز السجود على كور العمامة والقلنسوة؛ لأنَّ فعل أصحاب النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من غير نكير حجة قوية في ذلك؛ لأنَّه في حكم المرفوع؛ لأنَّه لا يقال من قبيل الرأي، بل من السماع أو الفعل من غير إنكار، ويدل لذلك ما رواه محمد بن أسلم الطوسي عن خلاد بن يحيى، عن (١) عبد الله بن المحرر، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة: (أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم سجد على كور عمامته)، قيل: وفي سنده ضعف، لكنه قد يقوى بتعدد الطرق، ولمَّا كان السجود على كور العمامة يفوِّت الأفضل وهو السجود على الأرض أو على ما تنبته الأرض؛ قال أئمتنا الأعلام: ويكره تنزيهًا السجود على كور عمامته من غير ضرورة حرٍّ أو برد أو خشونة الأرض، ولهذا كان عبادة بن الصامت، وعلي بن أبي طالب، وابن عمر وأبو عبيدة، وإبراهيم النخعي، وابن سيرين، وميمون بن مهران، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وجعدة بن هبيرة يكرهون السجود على العمامة؛ يعني: من غير ضرورة حر أو برد أو نحوهما؛ لثبوت فعله عن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه من السجود على العمامة تعليمًا للجواز، فلم تكن الكراهة تحريمية، ونبه المحقق ابن أميرحاج على أن صحة السجود على كور العمامة محله إذا كان على الجبهة أو بعضها، أما إذا كان على الرأس فقط، وسجد عليه ولم تصب جبهته الأرض؛ فإن صلاته غير صحيحة؛ لعدم السجود على محله، والناس عنه غافلون، انتهى.

قلت: وما علمته مما قدمناه حجة على الشافعي؛ حيث منع السجود على العمامة؛ قال: لأنَّه لمَّا لم يقم المسح عليها مقام الرأس؛ وجب أن يكون السجود كذلك، ولأن القصد من السجود التذلل، وتمامه بكشف الجبهة، كذا زعمه القسطلاني.

قلت: وهذا غير صحيح؛ فإنه قد ثبت في الكتب الستة: أن النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قد سجد على عمامته، وكذلك فعله أصحابه، والخلفاء الراشدون، وكذلك التابعون، فكان ذلك كالإجماع منهم على جوازه؛ لأنَّه لم ينكر ذلك أحد منهم؛ فدل على جوازه.

وقوله: (لأنه لما لم يقم...) إلى آخره: ممنوع؛ لأنَّه قياس مع الفارق ومع مقابلة النص، وهو باطل، ولأنَّ الجبهة ليست من الرأس، وقد علم أن أصحاب اللغة فسَّروا الوجه بما يواجه به الإنسان والجبهة منه، وسبحانه وتعالى أمرنا بغسل الوجه ومسح الرأس بالنص، فكل واحد منهما مأمور به شرعًا، فبالضرورة لم يقم المسح عليها مقام الرأس، وإذا كان كذلك؛ لم يجب أن يكون السجود كذلك؛ لأنَّ الجهة منفكَّة، وقد ثبت ذلك بدليل آخر كما علمت مما قررنا، وقوله: (ولأن القصد...) إلى آخره: هذا حجة على المانع؛ لأنَّه إذا كان القصد من السجود التذلل، وقد أتى به؛ لأنَّ السجود يتم بوضع الجبهة على الأرض، سواء كان بينهما حائل أم لا.

فقوله: (وتمامه بكشف الجبهة) : ممنوع؛ لأنَّ كشفها ليس من تمامه، فإن أهل اللغة وغيرهم قالوا: السجود: وضع الجبهة على الأرض مطلقًا، بل يتحقق السجود ويتمكَّن الشخص منه بوضع كور عمامته على جبهته (٢) أكثر، ولمَّا كان الشافعي لا دليل له في منعه السجود على العمامة لا من حديث ولا من قول صحابي؛ استند إلى هذا الكلام الغير الموافق للصواب، وقد علمت أنَّ هذا غير صحيح، وكلام أهل اللغة صريح بخلاف ما قاله، فثبت بذلك مذهب الإمام الأعظم وأصحابه والجمهور سلفًا وخلفًا من جواز السجود على العمامة، والله أعلم.

قال إمام الشَّارحين: ومطابقة هذا الأثر للترجمة غير ظاهرة إلا بالتعسُّف؛ لأنَّ الترجمة في السجود على الثوب، وهو لا يطلق على العمامة ولا على القلنسوة، ولكن لمَّا كان هذا الباب والأبواب الثلاثة التي قبله في السجود على غير وجه الأرض، بل كان على شيء هو على الأرض، وهو أعم من أن يكون حصيرًا أو خمرة أو فراشًا أو عمامة أو قلنسوة أو نحو ذلك؛ فبهذه الحيثية تدخل العمامة والقلنسوة في هذا الباب، انتهى.

قلت: ونفس الشاش الذي اتخذ منه عمامة أو قلنسوة يقال له: ثوب، لغة وعرفًا، ومع انضمامه لما يوضع على الرأس من الطاقية والطربوش يقال له: عمامة أو قلنسوة، فيحتمل أن المؤلف نظر إلى الأصل من غير انضمام، فهو ثوب؛ فصح السجود على الثوب، ودخل تحت الترجمة، والله تعالى أعلم.

[حديث: كنا نصلي مع النبي فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر]

٣٨٥ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حَدَّثنَا أَبُو الوَليدِ هِشامُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ) هو الطيالسي البصري (قَالَ: حَدَّثنا بِشْرُ) بكسر الموحدة وسكون المعجمة (بنُ المُفَضَّل)؛ بضم الميم، وفتح الفاء، وتشديد الضاد المعجمة المفتوحة؛ هو الرَّقاشي -بفتح الراء- العثماني البصري الذي كان يصلي كل يوم أربع مئة ركعة (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (غَالِبٌ)؛ بالغين المعجمة وكسر اللام: ابن خَُطَّاف؛ بضم الخاء المعجمة وفتحها، وتشديد الطاء المهملة (القَطَّانُ)؛ بالقاف البصري، (عَن بَكر بن عَبْدِ اللهِ)؛ بفتح الموحدة في (بَكْر) وسكون الكاف: هو المزني البصري، (عَن أَنس بن مَالك) هو الأنصاري، خادم النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه (قَالَ: كُنَّا) أي: معشر الصحابة رضي الله عنهم (نُصَلِّي)؛ بضم النون: ضمير جماعة الذكور (مَعَ النَبِيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: في مسجده النبوي، (فَيَضَعُ أَحَدُنَا) جملة معطوفة على قوله: (كنا نصلي)؛ يمعنى: يضع كل واحد من الصحابة (طَرَفَ الثَّوْبِ)؛ أي: ثوبه المتصل به المتحرك بحركته ضرورة، وهذا كلام إضافي منصوب؛ لأنَّه مفعول (يضع)، وتقييد القسطلاني الثوب بالمنفصل أو المتصل الذي لا يتحرك بحركته تفسيرٌ وتقييد من عنده، ذكره؛ ترويجًا لما ذهب إليه إمامه، وهو باطل؛ فإنَّ الأصل في الثوب أن يكون متصلًا به ومتحركًا بحركته لغة وعرفًا عند أهل التحقيق، ودعوى القسطلاني باطلة، والمثبت مقدَّم على النافي، وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى.

قال إمام الشَّارحين: وفيه: حكاية قول الصحابي عما يفعله والنبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم يشاهده ولا ينكره؛ فيكون تقريرًا منه عليه السَّلام.

فإن قلت: كان أنس خلف النبي عليه السَّلام؟

قلت: نعم؛ وما كان يخفى على النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم شيء من أحوال من كان خلفه في الصلاة؛ لأنَّه عليه السَّلام قد كان يرى من خلفه كما يرى من قدامه، كما ثبت في «الصحيح»؛ فيكون قول الصحابي: (كنَّا نفعل كذا) من قبل المرفوع، ولا سيَّما قد اتفق الشيخان على تخريج هذا الحديث في «صحيحيهما»، وكذلك أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، انتهى؛ فافهم.


(١) في الأصل: (بن)، وهو تحريف.
(٢) في الأصل: (جبهة)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>