للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وأخرج ابن أبي شيبة نحوه، وهذا مذهب الإمام الأعظم والإمام أبي يوسف رضي الله عنهما، وذهب الزُّهري إلى أنَّه يجب غسل جميع الذكر إذا أمذى وإذا بال.

وروي عن أحمد: أنَّه لا يجب الاستنجاء والوضوء، وروي عنه: أنَّه يجب غسل الذكر والأنثيين مع الوضوء وهي الأصح، وعند مالك خلاف، والأصح أنَّه يجب الوضوء منه، ويجب غسله؛ لنجاسته، ومذهب الشافعي كمذهبنا، وروي عن سلمان بن ربيعة الباهلي أنَّه تزوج امرأة من بني عقيل، فكان يأتيها فيلاعبها فيمذي، فسأل عمر بن الخطاب عن ذلك، فقال: (إذا وجدت الماء؛ فاغسل فرجك وأنثييك، وتوضأ وضوءك للصلاة)، فيحتمل كما قال صاحب «عمدة القاري» أنَّه أمر بغسل الأنثيين لرد المذي وكسره، أو لاحتمال إصابة شيء منه.

واستدل ابن دقيق العيد بالحديث على تعيين الماء فيه دون الأحجار ونحوها أخذًا بالظاهر، ووافقه النووي على ذلك في «شرح مسلم»، وخالفه في باقي كتبه، وحمل الأمر بالغسل على الاستحباب.

قلت: وهذا هو المعروف عندهم، وعند المالكية لا يجزئ فيه الحَجَر.

ومن أحكام هذا الحديث: دلالته على نجاسة المذي وهو ظاهر، ونقل عن ابن عباس الحنبلي أنَّه خرَّج من قول بعضهم: (إنَّ المذي من أجزاء المني) رواية بطهارته، ورد عليه بأنَّه لو كان كذلك؛ لوجب الغسل منه؛ فليحفظ.

واستدل بقوله: (توضأ) على أنَّ الغسل لا يجب بخروجه، وصرح بذلك في رواية أبي داود وغيره وهو بالإجماع.

واستدل به أيضًا: على وجوب الوضوء على من به سلس المذي؛ للأمر بالوضوء مع الوضوء بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة، ورُدَّ بأنَّ الكثرة هنا ناشئة عن غلبة الشهوة مع صحة الجسم بخلاف صاحب السلس، فإنَّه ينشأ عن علة في الجسد.

وقد يقال: لما أمر الشارع بالوضوء منه ولم يفصل؛ دل على عموم الحكم، ورُدَّ بأنَّه لا رخصة عند أحد من علماء المسلمين في المذي الخارج عن صحة، فكلهم يوجبون (١) الوضوء منه وهو سنة مجمع عليها، ولما صح الإجماع في وجوب الوضوء منه؛ لم يبق إلا أن تكون الرخصة في خروجه عن فساد وعلة، فإذا كان خروجه كذلك؛ فلا وضوء ما دام في الوقت؛ لأنَّ ما لا يرقأ ولا ينقطع لا وجه للوضوء منه في الوقت، فإذا خرج الوقت؛ انتقض وضوءه؛ لأنَّه صار صاحب عذر؛ فليحفظ.

واستدل بالحديث: على قبول خبر الواحد، وعلى جواز الاعتماد على الخبر المظنون مع القدرة على المقطوع، كما قدمناه، ونظر فيه ابن حجر فزعم أنَّ السؤال كان بحضرة علي، ولو صح أنَّه كان في غيبته؛ لم يكن دليلًا على المدَّعي؛ لاحتمال وجود القرائن التي تحفُّ الخبر فترقيه عن الظن إلى القطع.

وردَّه ابن دقيق العيد: بأنَّ المراد الاستدلال به على قبول خبر الواحد مع كونه واحدًا في صورة من الصور التي تدل وهي حجة بجملتها، لا بفرد معين فيها.

قلت: ونظره فاسد، فإنَّ قوله: (إنَّ السؤال كان بحضرة عليٍّ) ممنوع؛ لما علمت من الأحاديث أنَّه كان بغيبته.

وقوله: (ولو صح...) إلخ، نعم؛ قد صح أنَّه كان في غيبته.

وقوله: (لم يكن دليلًا...) إلخ ممنوع؛ لأنَّه على كل حال لما اقتصر علي رضي الله عنه على قول المقداد مع تمكنه من سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بنفسه؛ دل على أنَّه قادر، فالقدرة مقطوع بها، وقول المقداد مظنون، وقد اعتمد عليه، ولا قرينة توجد حتى تحق الخبر.. إلخ، فإنَّها غير موجودة.

غاية الأمر أنَّه قد اختلف في السائل، فالاختلاف فيه ليس بقرينة، كما لا يخفى، وقد يظهر أنَّ هذا هو الصواب؛ فافهم.

(١٤) [باب من تطيب ثم اغتسل وبقى أثر الطيب]

هذا (باب) حكم (مَن تطيَّب) قبل الاغتسال من الجنابة، (ثم اغتسل) منها (وبقي أثر الطيب) في جسده، وكانوا يتطيَّبون عند الجماع لأجل النشاط، فالسنة اتخاذ الطيب للرجال والنساء عند الجماع، والمناسبة بين البابين من حيث إنَّ في الباب السابق يحصل الطيب في الخاطر عند غسل المذي، وهنا يحصل الطيب في البدن والنشاط في الخاطر عند التطيُّب، كذا في «عمدة القاري».

[حديث عائشة: أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طاف في نسائه]

٢٧٠ - وبه قال: (حدثنا أبو النُّعمان)؛ بضمِّ النون: هو محمَّد بن الفضل (قال: حدثنا أبو عَوانة) : هو الوضاح اليشكري، (عن إبراهيم بن محمَّد بن المُنْتَشر)؛ بضمِّ الميم، وسكون النون، وفتح المثناة الفوقية، بعدها شين معجمة، (عن أبيه) : هو محمَّد بن أبي مسروق الكوفي (قال: سألت عائشة) : الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها عن التطيب قبل الإحرام، (وذكرتُ)؛ بالواو، وفي رواية: بالفاء (لها) حين السؤال (قول) عبد الله (ابن عمر) ابن الخطاب رضي الله عنهما: (ما أُحب أن أُصبح)؛ بضمِّ الهمزة في الفعلين (محرمًا أَنضخ)؛ بفتح الهمزة، وبالخاء المعجمة، وفي رواية بالمهملة؛ أي: أفور؛ لأنَّ النضخ هو الفوران، قال الله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن: ٦٦]، قال البيضاوي: (فوارتان)؛ فافهم.

وقوله: (طِيبًا) منصوب على التمييز، وهذا إخبار عن نفسه، (فقالت عائشة) رضي الله تعالى عنها: (أنا طيبت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم طاف) أي: دار (في نسائه)، وهو كناية عن الجماع، ومن لوازمه الاغتسال؛ لأنَّه ضروري لا بدَّ منه، ففيه: مطابقة الحديث للترجمة الأولى، قيل في رواية: (على نسائه)، فتكون (في) بمعنى: (على)؛ فافهم.

(ثم أصبح) على صيغة الماضي مفردًا؛ أي: ثم أصبح النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (محرِمًا) ينضخ طيبًا، ومن لوازمه؛ بقاء أثر الطيب عليه، ففيه: المطابقة للترجمة الثانية، فإنَّها ردت على ابن عمر، ولا بد من تقدير (ينضخ طيبًا) بعد لفظ (أصبح محرِمًا) حتى يتم الرد، وفي الحديث: أنَّ التطيب قبل الإحرام سنة، وفيه: جواز رد بعض الصحابة على بعض، وفيه: خدمة الأزواج، وتمامه سبق في باب: (إذا جامع، ثم عاد)، والله تعالى أعلم.

[حديث: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرِم]

٢٧١ - وبه قال: (حدثنا آدم) : هو ابن أبي إياس- بكسر الهمزة- كما صرح به في رواية (قال: حدثنا شعبة) : هو ابن الحجاج (قال: حدثنا الحكم)؛ بفتحتين: هو ابن عُتيبة مصغر عُتْبَة، (عن إبراهيم) : هو النخعي، (عن الأسود) : هو خال إبراهيم النخعي، (عن عائشة) : الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها (قالت: كأني أنظر إلى وَبِيْص)؛ بفتح الواو، وكسر الموحدة، بعدها تحتية ساكنة، بعدها صاد مهملة؛ وهو البريق واللمعان، وهو مصدر وَبَصَ يَبِصُ وبيصًا، (الطِّيْب)؛ بكسر الطاء المهملة، وسكون التحتية، قال الإسماعيلي: (وبيص الطيب؛ تلألؤه، وذلك لعين قائمة لا للريح فقط) (في مَفرِق النبيِّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) بفتح الميم، وكسر الراء؛ وهو مكان مفرق الشعر من الجبين إلى دائرة وسط الرأس، وجاء فيه: فتح الراء، وفي «المصابيح» : بميم مفتوحة، وراء مكسورة، وبالعكس، انتهى؛ فتأمل.

(وهو محرم)؛ أي: والحال أنَّه محرم، فالجملة محلها نصب على الحال، وفي الحديث المطابقة للترجمة الثانية، وهي قوله: (وبقي أثر الطيب)، واستنبط من الحديث: أنَّ بقاء أثر الطيب على بدن المحرم إذا كان قد تطيب به قبل الإحرام غير مؤثر في إحرامه، ولا يوجب عليه كفارة، قاله الخطابي، وهو مذهب الإمام الأعظم، والإمام أبي يوسف، وكرهه الإمام محمَّد بما يبقى عينه بعد إحرامه، ومنعه مالك قائلًا: إنَّ التطيب كان لمباشرة النساء، مؤولًا قولها: (بأنَّه ينضخ طيبًا) بأنَّه قبل غسله، وقولها: (كأنَّي أنظر إلى وبيصه، وهو محرم) بأنَّ المراد منه أثره لا جرمه.

قال النووي: (وهذا غير مقبول منه لما قالت: «كنتُ أطيِّبُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لحِلِّه ولحرمه»، وهو ظاهر في أنَّ الطيب للإحرام لا للنساء وكذا تأويله؛ لأنَّه مخالفة للظاهر لغير ضرورة) انتهى.

وقال ابن بطال: (في الحديث: أنَّ السنة اتخاذ الطيب للرجال والنساء عند الجماع، وكان عليه السلام أمَلك لأربه من سائر أمته، فلذلك كان لا يجتنب الطيب في الإحرام ونهانا عنه؛ لضعفنا؛


(١) في الأصل: (يوجبوا)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>