للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

((٥)) [كتاب الغُسْل]

(بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب الغسل) كذا في الرواية، ووقع في رواية الأكثر تأخير البسملة عن (كتاب الغسل)، قيل: وجهه أن الترجمة قائمة مقام اسم السورة، والأحاديث المذكورة بعدها كالآيات المفتتحة بها، وأما وجه تقديمها؛ فظاهر؛ لأنَّ كتاب الوضوء قد تم وختم، وهنا قد ابتدأ بحكم آخر؛ وهو غسل الجنابة، ووقع في رواية الأصيلي: (باب الغسل)؛ بإسقاط البسملة، وإبدال (كتاب) بـ (باب)، قال إمام الشارحين في «عمدة القاري» : (وهذا أوجه؛ لأنَّ الكتاب يجمع الأنواع، والغسل نوع واحد من أنواع الطهارة وإن كان في نفسه يتعدد)، و (الغُسل)؛ بضمِّ الغين؛ لأنَّه اسم للاغتسال: وهو إسالة الماء، وإمراره على الجسم، وقيل: الماء، وبفتح الغين مصدرًا، وفي «المحكم» : (غسل الشيء يغسله غسلًا) انتهى.

قال في «عمدة القاري» : (وهذا لم يفرق بين الفتح والضم وجعل كلاهما مصدرًا، وغيره يقول: بالفتح مصدر، وبالضم اسم، وبالكسر: اسم لما يجعل مع الماء؛ كالأشنان) انتهى.

وقال بعض الشراح: (وأما المصدر؛ ففيه الضم والفتح)، قاله الأصمعي وهو يوافق ما في «المحكم»، لكن الأشهر فيه لغة الفتح، والأشهر عند الفقهاء فيه الضم، انتهى.

وبهذا ظهر فساد ما زعمه القسطلاني من أن الفتح أفصح وأشهر من الضم؛ فليحفظ.

فإذا علمت أن الضم هو المشهور، وأنه اسم من الاغتسال وهو تمام غسل الجسد؛ ظهر لك أنه لا فرق بين المعنى اللغوي والشرعي، وقال أبو زيد: الغسل؛ بالفتح: فعل المغتسل، وبالضم: الماء الذي يغتسل به، وبالكسر: ما يجعل مع الماء؛ كالأشنان، وحقيقة الغسل؛ لغة: هو السيلان مطلقًا، وشرعًا: سيلان الماء على جميع الجسد والشعر، ومنه: المضمضة والاستنشاق، وهما فرضان عملًا لا اعتقادًا، سواء نوى- وهو الأكمل- أو لم ينو، فإن الجمهور من الفقهاء: على أن النية ليست بشرط فيه؛ كالوضوء، وهو قول الإمام الأعظم، وأصحابه، وزعم الشافعية أنها شرط، وسواء تدلك- وهو الأكمل- أو لم يدلك؛ لأنَّ الجمهور ومنهم الإمام الأعظم، وأصحابه، والشافعي على أن الدلك فيه -كالوضوء- ليس بشرط، وقال الإمام أبو يوسف: إنه شرط في الغسل فقط، وقال مالك، والمزني: إن الدلك شرط في الغسل والوضوء، واحتجوا بالقياس على الوضوء، وبالإجماع على إمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسلها، فيجب في الغسل؛ لعدم الفرق بينهما، ورُدَّ: بأنا لا نسلم وجوب الدلك في الوضوء أيضًا؛ لأنَّ جميع من لم يوجب الدلك؛ أجاز، وأغمس اليد في الماء للمتوضئ من غير إمرار اليد؛ فبطل دعوى الإجماع، وانتفت الملازمة، واحتج الإمام أبو يوسف بقوله تعالى: {فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: ٦]؛ لما فيها من المبالغة وهي تقتضي افتراض الدلك كما تقتضي افتراض المضمضة والاستنشاق؛ فافهم.

وإنما ذكر الغسل بعد الوضوء؛ اقتداءً بالكتاب العزيز، ولأن الحاجة إلى الوضوء أكثر، والحاجة إلى الغسل أقل، ولأن محل الوضوء جزء من البدن، ومحل الغسل جميع البدن، والجزء مقدَّم على الكل طبعًا، فقدم وضعًا؛ ليوافق الوضع الطبع؛ ولأنَّه يسن تقديم الوضوء على الغسل، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

(وقولُِ الله تعالى)؛ بالرفع أو الجر، وفي بعض النسخ: (وقول الله)، وللأصيلي: (عزَّ وجلَّ)، وإنما افتتح كتاب بالآيتين الكريمتين؛ للإشعار بأن وجوب الغسل على الجنب بنصِّ القرآن، فقال: ({وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}) [المائدة: ٦]، هذه الآية الشريفة من سورة المائدة؛ يعني: اغسلوا أبدانكم على وجه المبالغة من الحدث الأكبر، وهذا هو المراد وإن كانت الطهارة تعم الحدث والخبث، ويستفاد منه: أن المغتسل يسن له أن يبدأ فيغسل يديه، وفرجه، ويزيل النجاسة بالماء، وبكل مائع طاهر إن كانت موجودة على بدنه؛ ليطمئن بزوالها قبل أن تشيع على جسده ولو كانت قليلة، والمراد: أن السنة نفس البداءة بغسل النجاسة، وأما نفس غسلها؛ فلا بد منه ولو قليلة؛ لتنجس الماء بها، فلا يرتفع الحدث عما تحتها ما لم تزل.

ويستفاد منه أيضًا: أن المسلم إذا مات ينجس نجاسة خبثٍ، على ما عليه عامة العلماء؛ لأنَّه حيوان دموي فينجس بالموت؛ كغيره من الحيوانات وهو الصحيح كما في «الكافي»، و «المحيط»، وغيرهما، فإذا وقع في الماء القليل؛ يفسده، وإذا حمله وصلى؛ لا تصح صلاته، فإذا غسل؛ فإنه يطهر، وأما الكافر إذا مات؛ فإنه لا يطهر بالغسل، ولا تصح صلاة حامله بعده بالاتفاق، كذا في «منهل الطلاب»، وأما قوله عليه السلام: «سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس»؛ فمعناه: ما دام حيًّا أو ما بعد تغسيله من حيث صحة الصَّلاة عليه، أو معناه: لا تنجسه الذنوب حتى لا يطهر بعد الغسل، على أن الحديث قد تكلم فيه الحفاظ النقاد؛ فافهم.

قال في «عمدة القاري» : والجنب يستوي فيه الواحد والاثنان، والجمع، والمذكر والمؤنث؛ لأنَّه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب، يقال: أجنب يجنب إجنابًا، والجنابة الاسم، وهو في اللغة: البعد، وسمي الإنسان جنبًا؛ لأنَّه ينهى أن يقرب من مواضع الصَّلاة ما لم يتطهر، ويجمع على أجناب، وجنبين، وقوله: {فَاطَّهَّرُوا} القاعدة تقتضي أن يكون أصله: تطهَّروا، فلما قصد الإدغام؛ قلبت التاء طاء، وأدغمت (١) التاء في الطاء، واجتلبت همزة الوصل؛ ومعناه: طهِّروا أبدانكم.

قلت: أصله من باب (التفعُّل)؛ ليدل على التكلُّف والاعتماد، وكذلك باب (الافتعال) يدل عليه نحو: (اطَّهروا)، أصله من طهر يطهر، فنقل (طهر) إلى باب (الافتعال)، فصار اتطهر على وزن (افتعل)، فقلبت طاء، وأدغمت الطاء في الطاء، وفيه من التكلُّف ما ليس في (طهر)، انتهى.

ومثل الجنب الحائض، والنفساء؛ إذا طهرتا، كما لا يخفى، ({وَإِن كُنتُم مَّرْضَى})؛ أي: مرضًا يخاف معه إن اغتسل بالماء أن يقتله البرد، أو يمرضه، أو يتلف بعض أعضائه، أو يزداد مرضه، أو يبطئه بغلبة الظن بتجربة، أو إخبار طبيب مسلم؛ فإنه يتيمَّم عند الإمام الأعظم رضي الله عنه ولو كان بالمصر، وقال الصاحبان: إذا كان بالمصر؛ لا يتيمم؛ لأنَّ تحقق عدم الماء في المصر نادر، والمعتمد الأول، ولهذا جزم به الإمام قاضيخان، فقال في «الخانية» : (الجنب الصحيح في المصر إذا خاف الهلاك من الاغتسال؛ يباح له التيمم، في قول الإمام الأعظم) انتهى.

وهذا مشروط بأن لا يجد قدرة على تسخين الماء، ولا على أجرة الحمام في المصر، ولا يجد ثوبًا يتدفأ به، ولا مكانًا يأويه، كما في «البدائع»، وشرح «الجامع الصغير»، قال في «البحر» : (فصار الأصل فيه أنه متى قدر على الاغتسال بوجه من الوجوه لا يباح له التيمُّم اتفاقًا) انتهى.

وروى ابن أبي حاتم عن مُجَاهِد: أنها نزلت في مريض من الأنصار لم يكن له خادم ولم يستطع أن يقوم ويتوضأ.

قلت: فإن وجد خادمًا؛ كعبده وولده وأجيره؛ لا يجزئه التيمم اتفاقًا، كما في «البحر» عن «المحيط»، وإن وجد غير خادمه ممن لو استعان به؛ أعانه ولو زوجته؛ فظاهر المذهب أنه لا يتيمم أيضًا بلا خلاف، كما يفيده كلام صاحبي «المبسوط» و «البدائع»، وغيرهما.

({أَوْ عَلَى سَفَرٍ}) : والمعتبر هنا هو السفر العرفي والشرعي؛ لما في «الخانية» : (قليل السفر وكثيره سواء في التيمم والصَّلاة على الدابة خارج المصر، وإنما الفرق بين القليل والكثير في ثلاثة؛ قصر الصَّلاة، والإفطار، والمسح على الخفَّين) انتهى، وفي «المحيط» : أو كان في مكان خارج المصر سواء كان خروجه لتجارة، أو لمزارعة، أو احتطاب، أو احتشاش، أو غير ذلك، وكان بينه وبين المصر نحو الميل على المعتمد، ويكفي في تقديره غلبة الظن هو المشهور، كما في أكثر الكتب، وروى البغوي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلًا منا حجر، فشجه في رأسه فاحتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: لم نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أخبر بذلك، فقال: «قتلوه قتلهم الله تعالى، ألا تسألوا إذ لم تعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال، إنَّما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة،


(١) في الأصل: (أدغم)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>