للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده»، انتهى، وفي «الفتاوى الظهيرية» : مقطوع اليدين والرجلين إذا كان بوجهه جراحة يصلي بغير طهارة، ولا يتيمم ولا يعيد في الأصح، قاله في «البحر»، ({أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ})؛ أي: فأحدث بخروج الخارج من أحد السبيلين، وأصل الغائط: المكان المطمئن من الأرض، فالمجيء من الغائط كناية عن الحدث؛ لأنَّ نفس المجيء من المطمئن من الأرض لا يوجب الطهارة، وسُمِّيَ الحدث غائطًا تسمية للشيء باسم مكانه؛ لأنَّهم كانوا قبل اتخاذ الكنف في البيوت يأتون الغائط؛ أي: المطمئن من الأرض احتجابًا عن أعين الناس، ({أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ})؛ أي: جامعتم النساء؛ لأنَّ المس بإجماع أهل اللغة: الجماع، فإن جميع العرب كانت تُكَنِّي عن الجماع بالمسِّ، وقرئ: {أو لمستم}، فهي محمولة على (لامستم) على أن المراد منهما المس؛ وهو الجماع، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، وهو مذهب ترجمان القرآن ابن عباس، وعليٍّ، والجمهور من الصحابة والتابعين، وزعم الشافعية أن {لامَسْتُمُ}؛ أي: لمستم المشتَهَيات منهن من غير المحارم؛ أي: مسستم بشرتهن ببشرتكم، واستدلوا بقراءة حمزة والكسائي: {أو لمستم} وإن كان خلاف الظاهر، وخلاف ما عليه أئمة اللغة ومن عادة العرب؛ فافهم، ({فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً})؛ أي: لم تقدرا على استعماله؛ لعدمه أو بعده، أو لفقد آلة الوصول إليه من الدلو، والرشاء، أو لمانع عنده من حية أو سبع، أو عدو، أو مشغول بحاجته للعطش سواء كان لنفسه، أو لكلبه، أو لرفيقه، أو دابته حالًا أو مآلًا أو للعجين، أو الطبيخ، أو لإزالة النجاسة، فإن ذلك كله كالمعدوم، فالمراد من عدم الوجدان عدم القدرة على استعمال الماء المطلق الكافي لطهارته لصلاة تفوت إلى خلف؛ كالصلوات الخمس، فإن خلفها قضاؤها، وكالجمعة فإن خلفها الظهر، واحترز به عمَّا لا يفوت إلى خلف؛ كصلاة الجنازة والعيدين، والكسوف، والسنن الرواتب، فلا يشترط لها عدم الوجدان، وظاهر النظم الشريف يدل على أن يكون المرض والسفر من الأسباب الموجبة للطهارة؛ كالحدث الواقع بخروج ما خرج من أحد السبيلين، وبملامسة النساء، وليس كذلك؛ بل المرض والسفر من الأسباب المرخصة لا من الأسباب الموجبة للطهارة إلا أن ما يوجب الطهارة لما كان منحصرًا في الحدث الأصغر والجنابة، وكان أغلب الأحوال المقتضية لترخص من اتصف بها بالتيمم منحصرًا في المرض والسفر كان الظاهر أن يقال: وإن كنتم جنبًا مرضى أو مسافرين، أو كنتم محدثين مرضى أو مسافرين إلا أن الجنب -لما سبق ذكره- اقتصر على بيان حاله المقتضية لترخصه بالتيمم والمحدث لما لم يَجْرِ ذكره؛ علم أن التفصيل لحال الجنب، فإن عدم وجدان الماء بمعنى عدم التمكن من استعماله عذر يرخص التيمم، وعدم التمكن من استعمال الماء مجمل حيث لم يبين أن سببه هو المرض أو السفر هكذا يجب أن يفهم هذا المحل؛ فافهم، والفاء في قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} عطفت ما بعدها على الشرط، وقوله: ({فَتَيَمَّمُوا}) : جواب الشرط، وضمير (تيمموا) لكل من تقدم من مريض، ومسافر، ومتغوط، وملامس، وفيه تغليب الخطاب على الغيبة؛ لأنَّ قوله: {كُنتُمْ} {أَوْ لامَسْتُمُ} خطاب، وقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ} غيبة غلب الخطاب في {كُنتُمْ} وما بعده على الغيبة في قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ} وما أحسن الإتيان هنا بالغيبة! لأنَّه كناية عما يستحي منه، فلم يخاطبهم به وهو من محاسن الكلام، ({صَعِيدًا طَيِّبًا})؛ يعني: أن التيمم بمعنى: القصد والتعمد، وأن الصعيد: هو وجه الأرض ترابًا كان أو غيره، سمِّي صعيدًا؛ لكونه صاعدًا ظاهرًا، وأن الطيب بمعنى: الطاهر سواء كان منبتًا أو غير منبت حتى لو فرضنا صخرًا لا تراب عليه فضرب المتيمم يده عليه ومسح؛ كان ذلك كافيًا؛ لظاهر الآية الشريفة، هذا مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وقال الإمام أبو يوسف، وتبعه الشافعي: لا بدَّ من تراب يلتصق بيده؛ لأنَّ هذه الآية مقيدة، وهي قوله تعالى: ({فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ}) : وكلمة (من) للتبعيض، ومسح بعض الصعيد لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه، ورُدَّ: بأنَّا لا نسلم أن (من) للتبعيض؛ بل هي لابتداء الغاية؛ لأنَّه لا يصح فيها ضابط التبعيض والبيان، وهو وضع بعض موضعها في الأول، ولفظ الذي في الثاني و (الباء) في الأول بحاله، ويزاد في الثاني جزء؛ ليتم صلة الموصول؛ كما في {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: ٣٠]؛ أي: الذي هو الأوثان، ولو قيل: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم بعضه؛ أفاد أن المطلوب جعل الصعيد ممسوحًا والعضوين آلته، وهو منتف إجماعًا، وزعم في «الكشاف» أن قولهم: (من) لابتداء الغاية قول متعسف، ولا يفهم أخذه من العرب من قول القائل: مسحت برأسي من الدهن، ومن الماء، ومن التراب إلا معنى التبعيض، والإذعان للحق أحق.

قلنا: إن هذا مردود، والجواب: أن عدم الفهم إنَّما نشأ من اقتران (من) بالزمن ونحوه مما هو أسهل من التبعيض، ولو قرنت بما ليس كذلك؛ لانعكس الحكم، فيقال: لا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت يدي من الحجر والحائط معنى التبعيض أصلًا، بل معنى الابتداء، ومدخولها ههنا هو الصعيد، وهو مشتمل على ما يتبعض بشموله له ولغيره، ومعناها الحقيقي المجمع عليه هو الابتداء، على أنه قد أنكر معنى التبعيض جماعةٌ من أهل العربية؛ كأبي العباس المبرد، والأخفش، وابن السراج، والسهيلي، وغيرهم، وقالوا: إنها لا تدل على غير الابتداء، وسائر المعاني راجعة إليه، وقلنا أيضًا: إن الصعيد اسم لوجه الأرض ترابًا وغيره، قال الزجاج: لا أعلم اختلافًا بين أهل اللغة فيه، وإذا كان هذا مفهومه؛ وجب تعميمه، ويدل له قوله عليه السلام في «الصحيحين» : «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، فإن (اللام) فيه للجنس، فلا يخرج شيء منها؛ لأنَّ الأرض كلها جعلت مسجدًا، وما جعل مسجدًا هو الذي جعل طهورًا، ويدل للعموم أيضًا قوله تعالى: {صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: ٤٠]؛ أي: حجرًا أملس، فإن التراب لا يكون زلقًا، وأما الطيب؛ فلفظ مشترك يستعمل بمعنى المنبت، وبمعنى الحلال، وبمعنى الطاهر، وقد أريد به الطاهر إجماعًا، فلا يُراد غيره؛ لأنَّ المشترك لا عموم له، ولأن التيمم إنَّما شرع لدفع الحرج، كما يفيده سياق الآية الكريمة، وهو فيما قلنا، فيتعين أن يجوز التيمم بكل ما كان من جنس الأرض؛ كالتراب، والرمل، والحجر، والجص، والتورة، والكحل، والزرنيخ، وأما الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، وما أشبهها، فما دامت على الأرض ولم يُصْنَع منها شيء؛ يجوز، وبعد السبك لا يجوز، وهذا ما عليه الجمهور من أهل التفسير، وأهل اللغة، وغيرهم، والإذعان للحق أحق من المراء؛ فافهم.

وإنما كان التيمم في الوجه واليدين خاصة؛ لأنَّه بدل عن الغسل، وهو الأصل، والرأس ممسوح، والرجلان فرض متردد بين المسح والغسل، كذا في «الجوهرة»؛ يعني: إذا لبس الخفين؛ كان فرضهما المسح على الخفين، وإلا؛ ففرضهما الغسل، كذا في «منهل الطلاب»، فيمسح من وجهه ظاهر البشرة والشعر على الصحيح، كما في «فتح القدير»، والاستيعاب شرط على المختار، فيخلل لحيته وأصابعه ويحرك الخاتم، كما في «النهر» عن الفيض، ويجب مسح ما تحت الحاجبين ومؤق العينين، كما في «المحيط»، ولا يشترط الترتيب في التيمم كأصله، كما في «البحر»؛ بل هو سنة، كما في «منهل الطلاب»، والقصد شرط؛ لأنَّه النية، كما في «البحر»، وقال الإمام زفر: النية في التيمم ليست بشرط؛ كالوضوء، كما في «المجتبى»، وقال أبو بكر الرازي: لا بد من التمييز بين الحدث والجنابة، وعند أئمتنا الأعلام:

<<  <   >  >>