ينوي الطهارة أو إباحة الصَّلاة، فيجوز به كل فعل لا صحة له بدون الطهارة، كما في «الأشباه والنظائر»، واليد لغة: اسم من رؤوس الأصابع إلى الإبط، وبه قال الزُّهري في (التيمم) بخلاف (الوضوء)، وقال الأوزاعي: إلى الرسغ، ومذهب الإمام الأعظم والجمهور: إلى المرافق، والغاية داخلة، وقال الإمام زفر: غير داخلة، وما روي: أنه عليه السلام تيمم ومسح على يديه إلى المرفقين، والقياس على الوضوء دليل على أن المراد ههنا: وأيديكم إلى المرافق، وعند مالك وأحمد: الفرض أن يمسح يديه إلى كوعيه فقط، ولكن يسن إلى مرفقيه.
({مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ})؛ أي: ضيق أو مشقة؛ أي: لا يريد تكليف الوضوء، والاغتسال، والتيمم تضييق الأمر عليكم، وإلحاق المشقة بكم، ({وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ})؛ أي: ولكن يريد تطهيركم من الحدث والجنابة، أو من الذنوب، فإن الوضوء مكفر لها، أو تطهيركم بالتراب إذا فقدتم الماء، فمفعول {يُرِيدُ} في الموضعين محذوف، و (اللام) للجحود وهي للتعليل متعلقة به، وقيل: زائدة، فالمفعول المحذوف إما الأمر بمطلق الطهارة سواء كان بالتوضؤ، أو الاغتسال، أو التيمم، وإما الأمر بالتيمم بخصوصه بشهادة ذكر الإرادة متصلًا بذكر الأمر بالتيمم؛ أي: ما يريد بالأمر المذكور تضييقًا عليكم، ولكن يريده؛ لينظفكم وينقيكم عن النجاسة الحكمية الحاصلة بخروج النجس من مخرجه، فإن الحدث والجنابة لا يوجبان نجاسة حقيقية إذا غسل موضع إصابة النجس، فالطهارة إنَّما تنظف من النجاسة الحكمية، ({وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ})؛ أي: ويريد إتمام النعمة عليكم بإباحة التيمم لكم، والتخفيف في حالة السفر والمرض، أو يدخلكم الجنة، فإنه لا تتم نعمته إلا به ({لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ})؛ أي: نعمته، فيزيدها عليكم، وهذه الآية مشتملة على سبعة أمور؛ كلها مثنى طهارتان أصل وبدل، فالأصل ما يكون بالماء، والبدل ما يكون بالصعيد، وما يكون بالماء اثنان مستوعب؛ وهو الغسل، وغير مستوعب؛ وهو الوضوء، ثم الوضوء باعتبار الفعل غسل ومسح، وباعتبار المحل محدود؛ وهو غسل اليدين والرجلين؛ حيث ذكر كل واحد منهما بكلمة الغاية وهي تفيد التحديد، وغير محدود؛ وهو غسل الوجه ومسح الرأس، فإن شيئًا منهما لم يذكر بكلمة الغاية، وآلة كل واحدة من الطهارتين مائع؛ وهو الماء، وجامد؛ وهو الصعيد، وموجب تلك الطهارتين حدث أصغر أو أكبر، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وأن الموعود عليهما تطهير الذنوب، أو الأحداث، وإتمام النعمة؛ فليحفظ.
ولمَّا بين آية المائدة شرع في آية النساء، فقال:(وقوله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ})؛ أي: لا تدنوا إلى مواضع الصَّلاة وهي المساجد ({وَأَنْتُمْ سُكَارَى}) الواو للحال؛ أي: حالة السكر، فذكر الصَّلاة، وأراد بها مواضعها؛ كما في قوله تعالى:{لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ}[الحج: ٤٠]، وهو قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، ويدل لهذا الإضمار أنه عطف عليه {ولا جنبًا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا}[النساء: ٤٣]، وهي نهي الجنب عن قربان المساجد، فإنه استثنى عابر سبيل، وذلك في حق المساجد؛ لحرمة الصَّلاة، فكان النهي عن هذا نهي عن ذلك، ثم النهي ليس عن غير الصَّلاة؛ فإنها عبادة فلا ينهى عنها، بل هو نهي عن اكتساب السكر الذي يعجزه عن الصَّلاة، ويدل له أيضًا أن الحذف اعتمادًا على دلالة القرينة على المحذوف صحيحٌ شائع، والقرينة ههنا قوله تعالى:{لَا تَقْرَبُوا}؛ فإن قرب نفس الصَّلاة حقيقة لا يتصور؛ فلا بد من حمله على المعنى المجازي بخلاف قرب المسجد حقيقة؛ فإنه يصح ويتصور، فيتعين الحمل على مواضع الصَّلاة؛ وهي المساجد، وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم: إلى أن المراد من لفظ: {سُكَارَى} في الآية: السكر من الخمر وهو نقيض الصحو، وقال الضحاك: ليس المراد منه سكر الخمر، وإنما المراد منه سكر النوم، فإن لفظ السكر يستعمل في سكر النوم أيضًا؛ بناءً على أن السكر بالضم مأخوذ من سكر الماء؛ وهو سد مجراه، يقال: سكِر يسكَر سكرًا؛ مثل: بطِر يبطَر بطرًا، والاسم السُّكر؛ بالضم، والسَّكر؛ بالفتح مصدر سكرت النهر أسكره سكرًا؛ إذا سددته، والسِّكر؛ بالكسر: العزم، فلما كان السكر في أصل اللغة عبارة عن سد الطريق سُمِّي السكر من الشراب سكرًا؛ لما فيه من انسداد طريق المعرفة بغلبة السرور، وانسداد مجاري الروح المنبسط إلى الحواس الظاهرة بغلبة بخار الشراب عليها؛ ومنه قوله تعالى:{إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا}[الحجر: ١٥]؛ أي: سدت ومنعت النظر، وسكرات الموت أُخِذَت منه، وقوله تعالى:{وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى}[الحج: ٢] : هو تشبيه بحال سكر الشراب، وأكثر المفسرين: على أن المراد من لفظ {سُكَارَى} : السكر من الشراب، وهو الأظهر الأشهر عندهم، لا سيما وعليه الجمهور من الصحابة والتابعين؛ فليحفظ.
وفي الآية: دلالة على أن السكران مخاطب؛ لأنَّه قال تعالى:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}، وإذا كان مخاطبًا؛ عمل طلاقه، ونفذت عقوده، وسبب نزولها:(أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه صنع طعامًا فدعا أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًّا، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم، فأكلوا وسقاهم خمرًا - وذلك قبل تحريمها - فحضرت صلاة المغرب، فأمَّهم عبد الرحمن بن عوف)، وفي رواية:(فأمهم رجل من خيارهم)، وفي رواية:(فأمهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقرأ:{قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ}[الكافرون: ١] فطرح اللاءات)، فنزلت هذه الآية، وقيل: إن المراد بالصَّلاة في هذه الآية نفس الصَّلاة، وإن المعنى: لا تصلوا إذا كنتم سكارى ({حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ})؛ أي: حتى تفهموا معنى الذي تقولونه، فبيَّن سبحانه أن السكر هو أن يصير بحال لا يعلم ما يقول، وحدُّ السكر عند الإمام الأعظم رضي الله عنه: هو ألَّا يعرف الأرض من السماء، ولا الرجل من المرأة، وعند الإمامين أبي يوسف ومحمَّد، وتبعهما الشافعي: هو أن يخلط في كلامه، وفي الآية: دلالة على أن في الصَّلاة قولًا فرضًا نهي عن قربانها في حالة السكر؛ مخافة تركه، أو خوفًا من أن يدخل فيها قولًا ليس منها، وفيه: دليل على فساد الصَّلاة بالكلام عمدًا أو خطأً؛ لأنَّ السكران غير عامد، وفيه: دليل على أن الخطأ الفاحش في القراءة مفسد للصلاة، وعلى أن ردة السكران ليست بردة، فإن حديث قراءة بعضهم سورة الكافرون بطرح اللاءات مع أن اعتقادها كفر، ولم يكن كفرًا من ذلك القارئ حيث كان سكران دليل على ما قلنا، وفيه: دليل على أنه إذا جرى الكفر على لسانه خطأ من غير تعمد؛ لم يكفر به؛ لأنَّ ما يجري على لسان السكران خطأ، فعلى ذلك غير السكران وهذا؛ لأنَّ الكفر بالقلب، واللسان معبر عنه، وفي هذه الحالة لا يكون دليلًا على اعتقاد القلب فلم يجعل كفرًا؛ فليحفظ، وقرئ:(سَكارى)؛ بالفتح، و (سَكرى) على أنه جمع؛ كـ (هَلكى)، أو مفرد؛ بمعنى: وأنتم قوم سكرى، و (سُكرى) كـ (حُبلى) على أنها صفة الجماعة، ({وَلَا جُنُبًا})؛ أي: لا تقربوا المساجد وأنتم مجنبون، والجنب للجمع هنا، وهو مشتق من الجنابة؛ وهي البعد، وسمي الرجل الذي يجب عليه الغسل جنبًا؛ لبعده عن الصَّلاة، والمساجد، والقرآن، والجملة في موضع نصب على الحال؛ أي: لا تقربوها حال كونكم جنبًا ({إِلَاّ عَابِرِي سَبِيلٍ})؛ أي: إلا مسافرين عاجزين عن الماء، فلكم حينئذٍ أن تصلوا بالتيمم، فيكون هذا الاستثناء دليلًا على أنه يجوز للجنب الإقدام على الصَّلاة عند العجز عن الماء، قيل: إن نفرًا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم الجنابة فيريدون الماء ولا يجدون ممرًّا إلا في المسجد، فرخص لهم، وروي: أنه عليه السلام لم يأذن لأحد أن يجلس في المسجد أو يمر فيه وهو جنب إلا لعليٍّ رضي الله عنه؛ لأنَّ بيته كان في المسجد، وقال عليه السلام: «وجِّهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض