للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

في ذلك؛ لتنجيس الماء بذلك) انتهى.

قلت: أما قوله: (تخصيصه الحكم...) إلخ مسلَّمٌ، ولا نسلِّم التفصيل الذي ذكره بقوله: (وأمَّا إذا كان الماء قليلًا...) إلخ؛ لأنَّه في هذه الحالة أقبح بلا ريب؛ لتنجيس الماء الطاهر، فإنَّ تنجيس كلِّ طاهر حرام، فهو أقبح بلا شبهة.

وحاصله: أنه لا اختصاص بالبول، بل الغائط مثله، بل هو أقبح، وكذا الاختصاص ببول نفسه؛ لأنَّه لا فرق في بول الآدمي بين الفاعل وغيره، وآدميٍ وآدميٍ آخر إلا الأنبياء عليهم السَّلام، وكذا لا اختصاص للبائل إذا بال في إناء، فإن كلَّ ذلك عامٌّ، حكمه حكم البول في الماء؛ لأنَّ المراد به حصول النَّجاسة، وقد وُجدت، وهو قبيح؛ لأنَّ تنجيس الطاهر حرام، كما لا يخفى على أولي الألباب.

وفي الحديث: دليل على نجاسة بول الآدمي وغيره مما لا يُؤْكَل لحمه؛ لأنَّه عليه السَّلام أضاف البول إلى الآدمي، وهو غير مأكول اللحم، فالحيوان الذي لا يؤكل لحمه بوله كبوله، فاستفيد من الحديث: أن بول ما يُؤْكَل لحمه له حكمٌ خاصٌّ غير هذا، فذهب الإمام الأعظم والإمام أبو يوسف أنه نجس مخفَّف، وذهب الإمام محمَّد إلى أنَّه طاهر، كما قدَّمناه.

وزعم العجلوني أن في الحديث دليلًا (١) على نجاسة بول الآدمي وغيره ولو من مأكول اللحم.

قلت: نجاسة بول الآدمي وغيره مما لا يؤكل لحمه مسلَّمٌ، ولا نسلِّم أن بول مأكول اللحم نجس بدلالة الحديث؛ لأنَّ الحديث لا يدل على ذلك؛ لأنَّه عليه السَّلام قال: «لا يبولنَّ أحدكم»، فأضاف البول إلى الآدمي، فدل على المغايرة بينهما؛ فليحفظ.

وقال إمام الشارحين: إن المذكور في الحديث الغسل من الجنابة، فيلحق به الاغتسال من الحيض والنفاس، وكذلك يلحق به اغتسال الجمعة والعيدين، والاغتسال من غسل الميت عند من يوجبهما، فإن قلت: هل يلحق به الغسل المسنون أم لا؟ قلت: من اقتصر على اللفظ؛ فلا إلحاق عنده، كأهل الظاهر، وأما من يعمل بالقياس؛ فمن زعم أن العلة الاستعمال؛ فالإلحاق صحيح، ومن زعم أن العلة رفع الحدث؛ فلا إلحاق عنده، فاعتبر بالخلاف الثاني بين الإمام أبي يوسف والإمام محمَّد في كون الماء مستعملًا، انتهى.

وزعم العجلوني أن الغسل عامٌّ، وكان تخصيصه بما ذكره؛ لأنَّه المتبادر، فليس في الحديث تخصيص.

قلت: بل فيه تخصيص من حيث إنه عليه السَّلام قد صرح بالغسل من الجنابة، ففي «مسلم» عن أبي هريرة بلفظ: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب»، فالتخصيص بالجنابة مصرَّح به في الحديث بنصِّه عليه السَّلام، فبقية الاغتسالات بطريق الإلحاق لا بطريق العموم، فإن الحديث ليس من العامِّ في شيء، فإن المراد بالغسل إنَّما هو من الجنابة، لا سيما وقد فسره النبيُّ الأعظم عليه السَّلام بأنَّه من الجنابة، فهو من الخصوص قطعًا، كما لا يخفى، والله تعالى أعلم.

(٦٩) [باب إذا ألقى على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته]

هذا (باب إذا أُلقي)؛ بضمِّ الهمزة، مبني للمجهول؛ أي: طرح (على ظهر المصلي) : أي صلاة كانت وهو في صلاته (قذَر)؛ بفتح الذال المعجمة: ضد النظافة، يقال: قذِرت الشيء؛ بالكسر؛ إذا كرهته، كذا في «عمدة القاري»، فهو لغة: الشيء المستقذر، والمراد به هنا: النجس؛ لأنَّه مستقذر شرعًا، (أو جيفة) : وهي جثَّة الميت المريحة، وجملة: (لم تفسُد)؛ بضمِّ السين؛ أي: لم تبطل، قاله العجلوني، وفيه نظر؛ لأنَّ الفساد والبطلان في العبادات سيَّان لا فرق بينهما، فكيف فسَّر الفساد بالبطلان؟ وما هو إلا لعدم فهم معاني الكلام؛ (عليه صلاته) : جواب (إذا)، قال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» : وجه المناسبة بين البابين من حيث إنَّ الباب الأول يشتمل على حكم وصول النَّجاسة الماء، وهذا الباب يشتمل على حكم وصولها المصلي وهو في الصَّلاة، وهذا المقدار يتلمَّح به في وجه الترتيب وإن كان حكمها مختلفًا، فإن في الباب الأول: وصول البول إلى الماء الراكد ينجسه كما ذكرناه، وفي هذا الباب: وصول النَّجاسة المصلي لا تفسد صلاته على ما زعم البخاري، فإنه وضع هذا الباب لهذا المعنى، ولهذا صرَّح بقوله: (لم تفسد عليه صلاته)، وهذا إنَّما يتمشى على مذهب من يرى عدم اشتراط إزالة النَّجاسة؛ لصحة الصَّلاة، لا على مذهب من يقول: إنَّ من حدث له في صلاته ما يمنع انعقادها ابتداء؛ لا تبطل صلاته.

وزعم ابن حجر: بأنَّ قوله: (لم تفسد...) إلخ محله ما إذا لم يعلم بذلك وتمادى، ويحتمل الصحة مطلقًا على قول من يذهب إلى أنَّ اجتناب النَّجاسة في الصَّلاة ليس بفرض، وعلى قول من ذهب إلى منع ذلك في الابتداء دون ما يطرأ، وإليه ميل المصنف.

وردَّه إمام الشارحين فقال: (قلت: من أين علم ميل المصنف إلى القول الثاني، وقد وضع هذا الباب وترجم له بعدم الفساد مطلقًا، ولم يقيده بشيء مما ذكره هذا القائل؟ على أنَّه قد أكَّد ما ذهب إليه من الإطلاق بما روي عن عبد الله بن عمر، وسَعِيْد بن المسيِّب، وعامر الشعبي رضي الله عنهم، على أنَّ فيه نظرًا على ما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى) انتهى.

وزعم العجلوني أنَّ ظاهر كلام المصنف يدلُّ لما قاله ابن حجر، فإن تقييده عدم الفساد للصلاة بما إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة؛ يقتضي التفصيل المذكور، انتهى.

قلت: وهذا فهم فاسد، فإنَّ ظاهر كلام المصنف والمتبادر منه يدلُّ لما قاله إمام الشارحين، فإن قول المؤلف: (إذا ألقي على ظهر المصلي...) إلخ ليس تقييد لعدم الفساد، بل هو بيان كيفية وصول النَّجاسة [إلى] المصلي، وهو عامٌّ مطلقًا يشمل الابتداء والانتهاء، فهذا ليس بقيد، بل بيان الكيفية في وصول النَّجاسة إلى المصلي، فكلامه يقتضي عدم التفصيل، وهو ظاهر كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، فقد زاد في الطنبور نغمة على ابن حجر.

ثم زعم ابن حجر أن القول بالمنع يخرج عليه صنيع الصحابي الذي استمر في الصَّلاة بعد أن سالت منه الدماء برمْي من رماه.

وردَّه في «عمدة القاري» فقال: قلت: هذا الصحابي من حديث جابر رواه أبو داود في «سننه»، قال: (خرجنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم -يعني: في غزوة ذات الرقاع-...)؛ الحديث، وفيه: (فنزل عليه السَّلام منزلًا، وقال: «ما من رجل يكلؤنا؟» فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار يصلي، وأتى الرجل، فلما رأى شخصه؛ عرف أنه ريبة للقوم فرماه بسهم، فوضعه فيه، ونزعه حتى قضى ثلاثة أسهم، ثم ركع وسجد...)؛ الحديث، وتخريج هذا القائل صنيع هذا الصحابي على ما ذكره غير صحيح؛ لأنَّ هذا فعل واحد من الصحابة، ولعلَّه ذهل عنه، أو كان غير عالم بحاله، والتحقيق فيه: أن الدَّم حين خرج أصاب بدنه وثوبه، فكان ينبغي أن يخرج من الصَّلاة ولم يخرج، فلما لم يدل مضيُّه في الصَّلاة على جواز الصَّلاة مع النَّجاسة؛ لا يدل مضيُّه فيها على أنَّ خروج الدم لا يَنْقُضُ الوضوء، انتهى.

واعترضه العجلوني تعصبًا، فزعم أن كونه فِعْل واحد من الصحابة، واحتمال ذهوله، أو عدم علمه لا ينافي أنَّه عليه السَّلام اطَّلع عليه بعد ذلك بإخبار من الله تعالى أو من غيره، بل هو الظاهر؛ لأنَّه عليه السَّلام كان في تلك الغزاة قطعًا؛ لقول الصحابي: (خرجنا مع رسول الله عليه السَّلام)، ودعواه أن التحقيق ما ذكره لا يخفى ما فيها، فإن جزمه بأنَّ الدم أصاب بدنه أو ثوبه لا مستند له إلا الاحتمال الذي يحتمل خلافه، وقوله: (فلما لم يدل مضيُّه...) إلخ هو محل النزاع؛ إذ الخصم يقول: إنًّها صحيحة؛ للاحتمالين اللذين أبداهما، بل يحتمل أنه لم يصبه شيء من الدم يمنع صحتها، وإذا كان كذلك، فيلزم عدم النقض بخروج الدم، انتهى.

قلت: وهذا كلام فاسد، واعتراض بارد، فإن كونه فِعْل واحد من الصحابة، وذهوله، أو عدم علمه ينافي أنه عليه السَّلام اطَّلع عليه بعد ذلك بإخبار من ربه أو من غيره؛ ممنوع؛ لأنَّ اطَّلاعه عليه السَّلام عليه في هذه الحالة لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من غيرهم، على أنه لو فرض اطلاعه (٢) عليه السَّلام عليه؛ لكان إمَّا أقره على ذلك أو منعه منه، بل المنع هو الظاهر.

وقوله: (بل هو الظاهر...) إلخ ممنوع، فأيُّ ظاهر ظهر له أنَّه أخبره ربه أو غيره؟ وما هو إلا دعوى باطلة، ومسندة فارغة.

وقوله: (لأنَّه عليه السَّلام كان في تلك الغزاة...) إلخ لا يدل على أنه اطلع (٣) عليه؛ لأنَّه عليه السَّلام لم يتفقد


(١) في الأصل: (دليل)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (اضطلاعه)، وليس بصحيح.
(٣) في الأصل: (اضطلع)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>