للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

دليل من زعم أن الحامل تحيض، ولم يوجد لهم دليل يدل على ما زعموه، فإن كان؛ فهو مخالف لنص النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ولنص عائشة، وأبي سَعِيْد الخدري، وزريع بن ثابت، وابن عمر، وأبيه عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وغيرهم رضي الله عنهم، وما خالف النص؛ فهو مردود غير مقبول لا يعتمد عليه، ولا يسمع أذني عن سماعه صم، والله أعلم.

وقال ابن التين: (والدليل على أن دم الحامل ليس بحيض أن الملك موكلًا برحم الحامل، والملائكة لا تدخل بيتًا فيه قذر)، واعترضه ابن حجر، فزعم بأنه لا يلزم من كون الملك موكلًا به أن يكون حالًّا فيه، ثم هو مشترك الإلزام؛ لأنَّ الدم كله قذر، انتهى.

ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: (قلت: ولا يلزم أن يكون حالًّا فيه، والدم في معدته لا يوصف بالنجاسة، وإلا؛ يلزم ألَّا يوجد أحد طاهرًا خاليًا عن النجاسة) انتهى.

ثم قال رحمه الباري: (ووجه المناسبة بين هذا الباب والباب الذي قبله من حيث إن الباب الذي قبله يشتمل على أمور من أحكام الحيض، وهذا الباب أيضًا يشتمل على حكم من أحكام الحيض؛ وهو أن الحامل إذا رأت دمًا؛ هل يكون حيضًا أم لا؟ وقد ذكرنا أن غرض المؤلف من وضع هذا الباب هو الإشارة إلى أن الحامل لا تحيض كما سيأتي) انتهى، والله تعالى أعلم.

[حديث: إن الله عز وجل وكل بالرحم ملكًا يقول: يا رب نطفة]

٣١٨ - وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدثنا حمَّاد) هو ابن زيد البصري، (عن عُبِيد الله) بضمِّ العين المهملة، بلفظ التصغير (ابن أبي بكر) هو ابن أنس بن مالك الأنصاري، (عن أنس بن مالك) هو جده الأنصاري، يروي عنه، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنه (قال: إن الله عز وجل وكَّل)؛ بالتشديد كما في قوله تعالى: {مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: ١١] من التوكيل، يقال: وكل زيد عمرًا بكذا؛ إذا فوض إليه.

وزعم ابن حجر أن في روايته بالتخفيف؛ مِن وكله؛ إذا استكفاه إياه، وصرف أمره إليه، انتهى.

قلت: ليت شعري؛ هل روى هذا عن البخاري نفسه أم عن الفربري؟! وكيف يقول بالتخفيف، وقد جاءت الرواية بالتشديد عند جميع الرواة وبها جاء التنزيل؟! لا يقال: من حفظ حجة على من لم يحفظ؛ لأنا نقول رواية التخفيف شاذة، ولو كانت غير شاذة؛ لذكرها بعض الرواة، فعدم ذكرها من أحدهم دليل على عدم وجودها أو على شذوذها، والحق أنها غير موجودة أصلًا، فقد زاد هذا القائل في الطنبور نغمة؛ فافهم.

(بالرحم)؛ هو وعاء الولد وله ثلاثة أفواه، وقيل: خمسة، وقيل: أكثر، فإذا سقطت النطفة؛ بادرت تلك الأفواه بالاجتذاب منها، فإن جذب واحد؛ جاء ولد واحد، وإن أخذ اثنان؛ جاء ولدان، وهكذا يخلق الله ما يشاء بحكمته (ملكًا) بالنصب، وناصبه قوله: (وكل)؛ وهو جسم لطيف نوراني يتشكل بأشكال مختلفة (يقول) جملة من الفعل والفاعل، وهو الذي فيه يرجع إلى الملك في محل نصب؛ لأنَّها صفة الملك، وظاهر قوله: (إن الله...) إلخ يدل على أن بعثه إليه عند وقوع النطفة في الرحم، وفيه اختلاف الروايات سيأتي بيانها؛ فافهم، فليحفظ.

(يارب)؛ بحذف ياء المتكلم، وفي مثله يجوز: يا ربي، ويا رب، ويا رباه؛ بالهاء وقفًا، (نُطفة)؛ بضمِّ النون، قال الجوهري: النطفة: الماء الصافي، قل أو كثر، والجمع النطاف، ونطفان الماء؛ سيلانه، وقد نطف ينطُف، وينطِف من باب (نصر ينصر)، و (ضرب يضرب)، وليلة نطوف تمطر إلى الصباح، ويقال: جمع النطفة: نطف أيضًا، وكل شيء خفي نطفة ونطافة، حتى إنهم يسمون الشيء الخفي بذلك، وأصله للماء القليل يبقى في الغدير، أو السقاء، أو غيره من الآنية، ويقال له ما دام نطفة: صراة، ذكره صاحب «عمدة القاري»، ثم قال: ويجوز في (نطفة) الرفع والنصب، أما النصب؛ فهو رواية القابسي، ووجهه أن يكون منصوبًا بفعل مقدر؛ تقديره: جعلت المني نطفة في الرحم، أو خلقت نطفة، وأما وجه الرفع؛ فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: يا رب؛ هذه نطفة، والرفع رواية غير القابسي؛ فافهم.

(يا رب) بحذف ياء المتكلم كما سبق (علقة)؛ بفتح اللام، وهي الدم الجامد الغليظ، ومنه قيل لهذه الدابة التي تكون في الماء: علقة؛ لأنَّها حمراء؛ كالدم، وكل دم غليظ علق، قاله الأزهري، وذكر في «الموعب» : (أن العلق: الدم ما كان)، وقيل: هو الجامد قبل أن ييبس، وقيل: هو ما اشتدت حمرته، والنطفة منه علقة، وفي «المغيث» : (هو ما انعقد قبل اليابس، كأن بعضه علق ببعض تعقدًا ويبسًا (١))، كذا قاله إمام الشارحين، ثم قال: (ويجوز في «علقة» النصب والرفع) كما قدمناه؛ فافهم.

(يا رب) بحذف ياء المتكلم كذلك (مضغة) قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنا لا نتغافل المضغ بيننا؛ يعني: أراد الجراحات، وسماها مضغًا على التشبيه بمضغة الإنسان في حلقه، يذهب بذلك إلى تصغيرها وتقليلها، وقال الجوهري: المضغة: قطعة لحم، وفي «الغريبين» وجمعها: مضغ، ويقال: مضيغة، ويجمع على مضائغ، ويقال: المضغة: اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ، كذا في «عمدة القاري»، وفيه: أنه يجوز في (مضغة) الرفع والنصب، كما سبق.

فإن قلت: كيف يكون الشيء الواحد نطفة، علقة، مضغة؟

قلت: هذه الأخبار الثلاثة تصدر من الملك في أوقات متعددة لا في وقت واحد، ولا يقال: ليس فيه فائدة الخبر، ولا لازمه؛ لأنَّ الله علام الغيوب؛ لأنا نقول: هذه إنَّما تكون إذا كان الكلام جاريًا على ظاهره، أما إذا عدل عن الظاهر؛ فلا يلزم أحد المذكورين، وههنا المراد: التماس إتمام خلقه أو الدعاء بإقامة الصورة الكاملة عليه، أو المراد: الاستعلام عن ذلك، ونحوها، ومثل هذا كثير واقع في القرآن أيضًا في قوله تعالى حكاية عن أم مريم عليها السلام: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى} [آل عمران: ٣٦]؛ فإنه يكون للاعتذار وإظهار التأسف والحزن) انتهى كلامه رحمه الباري.

(فإذا أراد) أي: الخالق تبارك وتعالى (أن يقضي) أي: يتم، وفي رواية الأصيلي: (فإذا أراد الله أن يقضي) (خلقه) أي: خلق ما في الرحم من النطفة التي صارت علقة، ثم صارت مضغة، ويجيء (القضاء) بمعنى: الفراغ أيضًا، كذا في «عمدة القاري»، وفيه: (وجه تطابق هذا الحديث للترجمة أنه يفسر المخلقة وغير المخلقة، فإن قوله هنا: «فإذا أراد أن يقضي خلقه» هو المخلقة وبالضرورة يعلم منه أنه إذا لم يرد خلقه؛ تكون غير مخلقة، وقد بين ذلك حديث رواه الطبري بإسناد صحيح من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا وقعت النطفة في الرحم؛


(١) في الأصل: (يعقدًا وييبسًا)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>