للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

قد أزال النجاسة، وكل منهما طاعة مطلوبة مرغوبة، فليس في استقبال القبلة في ذلك خلل في تعظيم القبلة؛ فليحفظ.

(ولكن شرقوا أو غربوا)؛ يعني: خذوا في ناحية المشرق أو ناحية المغرب، وفيه: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وهو لأهل المدينة والشام، ومن كانت قبلتهم على سمتهم، أمَّا من كانت قبلته إلى جهة المشرق أو المغرب؛ فإنه ينحرف إلى جهة الجنوب أو الشمال، ثم إنَّ هذا الحديث يدل على عموم النهي في الصحراء والبنيان، وهو مذهب الإمام الأعظم رئيس المجتهدين وأصحابه، وبه قال أحمد في رواية، وهو قول إبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، ومجاهد، وغيرهم؛ لأنَّ المقصود من النهي عدم تعظيم القبلة، وهو موجود في الصحراء والبنيان، فإن الحائل كما أنه موجود في البنيان كذلك هو موجود في الصحراء؛ كالجبال والأودية، فإنه ليس لأحد أن يدعي نظره للقبلة إذا وقف في الصحراء؛ فليحفظ.

واحتج البخاري بعموم هذا الحديث، وسوَّى بين الصحارى والأبنية، وجعله دليلًا للترجمة التي وضعها أول الباب، واعترض عليه بأن في حديث أبي داود والمؤلف [ما] يدل على عكس ما أراده، وذلك لأنَّ أبا أيوب قال في حديثه: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، لكنا ننحرف عنها، ونستغفر الله)، ورده إمام الشَّارحين فقال: لا يرد على البخاري هذا أصلًا؛ لأنَّ المنع كان لأجل تعظيم القبلة، وهو موجود في الصحراء والبنيان، ولهذا قال أبو أيوب: (لكنا ننحرف، ونستغفر الله عز وجل) انتهى.

وذهب عروة بن الزبير، وربيعة الرأي، وداود إلى جواز الاستقبال والاستدبار مطلقًا؛ لحديث جابر بن عبد الله عند أبي داود، والترمذي، وأبناء ماجه وخزيمة وحبان: (نهانا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن نستقبل القبلة أو نستدبرها ببول، ثم رأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها)، ولا دليل في هذا الحديث لهم؛ لأنَّه يحتمل أنه رأى في الصحراء في مهب ريح بأن كانت الريح تهب على يمين القبلة أو شمالها، فإنَّهما لا يحرمان للضرورة، ويدل عليه حديث ابن عمر: (فرأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على لبنتين مستقبلًا بيت المقدس لحاجته)، وهذا يرد على من قال بالجواز مطلقًا.

وزعم المالكية والشافعية أنه لا يحرم الاستقبال في البنيان، ويحرم في الصحراء؛ لحديث ابن عمر المذكور، وردَّ: بأنه لا دليل فيه على ذلك؛ لأنَّه عليه السَّلام جلس على لبنتين لأجل أن يرتفع بهما عن الأرض؛ بدليل كونه على ظهر بيت، وما كان كذلك يحتاج إلى شيء يرتفع عليه لقضاء الحاجة، على أنه يشترط عند الشافعية أن يكون الساتر نحو ذراع، واللبنتان لا يبلغان ذراعًا، فاستدلالهم غير صحيح، والصواب حديث الباب الدال على عموم عدم الجواز مطلقًا، وقد سبق هذا الحديث في (الوضوء)، ومر الكلام عليه مستوفًى؛ فليحفظ، وهو حجة على الشافعي، وزعم القسطلاني أنه يحمل حديث الباب على الصحراء.

قلت: وهذا الحمل غير صحيح، فإن الحديث صريح في عدم الجواز مطلقًا، فكيف يحمل على هذا، وما هذا إلا تناقض؛ فافهم، وقد سبق الكلام عليه مستوفًى في كتاب (الوضوء).

[حديث: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها]

٣٩٤ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا علي بن عبد الله) هو المديني (قال: حدثنا سفيان) : هو ابن عيينة المكي (قال: حدثنا الزهري) : هو محمد بن مسلم ابن شهاب، (عن عطاء بن يزيد) : من الزيادة، زاد في رواية أبوي ذر والوقت: (الليثي)؛ بالمثلثة: هو الجندعي المدني التابعي، (عن أبي أيوب) : هو خالد بن زيد بن كليب (الأنصاري) رضي الله عنه، كان من كبار الصحابة، شهد بدرًا، ونزل النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم حين قدم المدينة عليه رضي الله عنه، وتوفي غازيًا بالروم سنة خمسين، وقيل: سنة خمس وخمسين، ودفن بالقسطنطينية، وبنى عليه قبة السلطان محمد الفاتح العثماني، ومسجدًا (١) يزار ويتبرك به، وهو جدي وسيدي وسندي، وعقد واسطتي بيني وبين جدي النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو بيني وبين رب العزة جل جلاله، وتقدست أسماؤه وصفاته بالغفران والعفو والدخول في الجنان: (أنَّ النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم قال: إذا أتيتم) أي: جئتم (الغائط) : هو اسم للأرض المطمئنة، والمراد به: قضاء الحاجة؛ (فلا تستقبلوا القِبلة)؛ بكسر القاف؛ أي: لا تطلبوا التوجه للكعبة عند قضاء الحاجة، (ولا تستدبروها)؛ تعظيمًا لها، واحترامًا لشأنها؛ لأنَّه تعالى خصها بالتوجه لها حال العبادة، وبالنظر إليها عبادة أيضًا، فلا يتوجه إليها حال نزول الأنجاس والأقذار، وظاهره اختصاص النهي بخروج الخارج من العورة أو بكشف العورة، قدمنا أن في ذلك خلافًا مبنيًّا (٢) على جواز الوطء والاستنجاء مستقبل القبلة مع كشف العورة، فمن علل بالأول؛ أباح، ومن علل بالثاني؛ منع، والصواب: الإباحة؛ فافهم.

(ولكن شرقوا أو غربوا)؛ أي: خذوا في ناحية المشرق أو ناحية المغرب، وفيه: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وهو مخصوص بأهل المدينة؛ لأنَّهم المخاطبون، ويلحق بهم من كانت قبلتهم على سمتهم ممن إذا استقبل المشرق والمغرب؛ لم يستقبل القبلة ولم يستدبرها، أمَّا من كانت قبلته إلى جهة المشرق أو المغرب؛ فإنه ينحرف إلى جهة الجنوب أو الشمال؛ فافهم.

(قال أبو أيوب) هو جدي الأنصاري: (فقدِمنا) بكسر الدال المهملة (الشام) : هي تذكر وتؤنث، على وزن (فعال)، سميت شامًا؛ لشامات لها؛ يعني: اختلاف أرضها في الألوان، يقال: فلان في قومه شامة؛ إذا كان له مزية عليهم بالكرم، أو بالحلم، أو بالشجاعة، وكذلك الشام، فإن لها مزية زائدة على غيرها؛ لقوله تعالى: (الشام كنانتي من أراد لها بسوء؛ ضريته بسهم منها)، وقوله عليه السَّلام لعبد الله بن حوالة: «عليك بالشام؛ فإنها خيرة الله من أرضه، وإن الله تكفل لي بالشام وأهله»، قال الراوي أبو إدريس: ومن تكفل الله به؛ فلا ضيعة عليه، وقال تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: ١]، قال المفسرون: {التِّينِ} : مسجد دمشق، وقال تعالى: {أَن بُورِكَ


(١) في الأصل: (مسجد)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (خلاف مبني)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>