للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

يستحي من الحق، فالحياء من الحق مذمومٌ شرعًا، وأسماء رضي الله عنها من كبار الصحابة المهاجرات، وهي أشد اتباعًا لسنة النَّبيِّ الأعظم عليه السلام فلا يمنعها ذلك؛ فافهم، والله أعلم.

(فقالت: يا رسول الله؛ أرأيت)؛ أي: أخبرني، وفيه تجوز لإطلاق الرؤية وإرادة الإخبار؛ لأنَّ الرؤية سبب الإخبار، وجعل الاستفهام بمعنى الأمر؛ بجامع الطلب، كذا في «عمدة القاري»؛ فافهم، (إحدانا) بالنصب مفعول (أرأيت) على معنى: أخبرني عن إحدانا، وجوز في «عمدة القاري» رفعه على الابتداء، والجملة بعده خبره.

قلت: وهو معنًى صحيحٌ؛ لأنَّه على معنى الاستئناف، فكأنها قالت: أخبرني حكم؛ وهو إحدانا... إلخ؛ فافهم.

(إذا أصاب ثوبَها الدمُ) بالرفع فاعل (أصاب)، وبنصب (ثوب) على المفعولية، (من الحَيضة)؛ بفتح الحاء المهملة، متعلق بقوله: (أصاب)، وجملة (كيف تصنع؟)؛ أي: في الثوب المذكور محلها نصب على أنها مفعول ثان لـ (رأيت)، أو بدل من الأول، أو لا محل لها، أو محلها الرفع؛ فتأمل.

(فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) لها في الجواب: (إذا أصاب ثوب) بالنصب مفعول (أصاب) (إحداكن الدم) بالرفع فاعله (من الحَيضة) بفتح الحاء المهملة أيضًا؛ (فلتَقْرُصه)؛ أي: الدم الموجود في الثوب المذكور، وهو بفتح الفوقية، وسكون القاف، وضم الراء، وبالصاد المهملة الساكنة؛ أي: تدلكه بأطراف الأصابع حتى تقلع الأثر، قال في «المحكم» : (القرص ((١)) : التخميش، والغمز بالإصبع)، وقدمنا تمامه، (ثم لتَنضَحُه) بفتح الفوقية، بعدها نون، وبفتح الضاد المعجمة، وضم الحاء المهملة، من باب (فتح)، وما قيل: إنَّه بكسر الضاد المعجمة؛ فقد غلط، ووفق بعضهم بأن الفتح أفصح، والكسر لغة، ولا ريب أن غير الفصيح شاذ وغلط، فتعين الفتح فقط، وقدمنا تمامه؛ فافهم، والمراد بالنضح: الغسل؛ أي: تغسله، ويدل له قوله في الحديث السابق: (فاغسلي عنك الدم)، فهو يعين أن المراد بالنضح في كلامهم: الغسل لا غير؛ فافهم، والمراد: أنها تفرك مواضع الدم بأطراف أصابعها (بماء)؛ أي: مع صب عليه؛ ليتخلل بذلك، ويخرج ما تشربه الثوب منه، ولا يضر بقاء أثرٍ شقَّ زواله، فلا يتكلف في إزالته لنحو صابون، أو أشنان، أو ماء حار، أو غيرها؛ فإنه غير لازم للحرج، وهو مدفوع بالنص، والحك بالضلع، والماء المملح الواقع في بعض الروايات إن صح؛ فهو محمول على الندب لا الوجوب؛ لأنَّ الأحاديث الصحاح ليس فيها ذكر ذلك، كما أوضحناه فيما سبق، (ثم لتصلي فيه)؛ أي: بذلك الثوب، فقد علمت أن الضمير المنصوب في (فلتقرصه) يرجع إلى الدم الذي أصاب الثوب، والضمير في قوله: (لتنضحه) يرجع إلى الماء، وهذا هو الأصل في إرجاع الضمير.

واستدل الإمام محمَّد بن الحسن والشافعي بهذا الحديث على أنَّ النجاسات إنَّما تزال بالماء دون غيره من المائعات الطاهرة؛ لأنَّ جميع النجاسات بمثابة الدم إجماعًا.

قلت: وهو مردود؛ فإن ذكر الماء في الحديث خرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط، والمعنى في ذلك: أن الماء أكثر وجودًا من غيره، فصرح به باعتبار الكثرة والغالب، ورد أيضًا بأن تخصيص الشيء بالذكر لا ينفي الحكم عما عداه، ورد أيضًا بأن هذا مفهوم اللقب، وهو غير حجة عند الشافعي، ويدل لهذا حديث عائشة: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم الحيض؛ قالت بريقها، فمصعته بظفرها)، وعند أبي داود: (بلته بريقها)، فلولا أن الريق مطهِّر؛ لزادت النجاسة، فعلم أن الرِّيق وغيره من المائعات الطاهرة مطهر للنجاسة كالماء، فلا خصوصية للماء في ذلك، هذا مذهب الإمام الأعظم وأصحابه والجمهور.

واعترض باحتمال أن تكون قصدت بذلك تحليل أثره، ثم غسلته بعد ذلك.

قلت: وهذا احتمال بعيد بارد؛ لأنَّه لا دليل يدل على أنها غسلته بعد ذلك، بل ظاهره صريح في أنها اقتصرت على الريق، ولئن سلمنا أنها غسلته؛ فبالغسل يحصل تحليل أثره من غير احتياج إلى مضغه أو بله بريقها، فعلم بذلك أنها لم تغسله، ومضغه أو بله بريقها دليل على أنها لم تغسله، وهو كذلك؛ لأنَّه لم يثبت عنها ذلك ولا أحد نقله عنها، فاحتمال الغسل بعد ذلك دعوى باطلة لا يعتد بها، على أن المقصود من تطهير النجاسات إزالة عينها وأثرها، والمائعات الطاهرات وكذا الريق لا ريب أنها تزيل العين والأثر، وبها يحصل المقصود، فلا خصوصية للماء، كما لا يخفى على أولي الألباب.

وفي الحديث دليل على أن الدم نجس، وهو بالإجماع، وفيه دلالة على أن العدد ليس بشرط في إزالة النجاسة، بل المراد الإنقاء، وفيه دليل على أنها لم تر في ثوبها شيئًا من الدم ترش عليه، وتصلي فيه لأجل دفع الوسوسة، وتمامه فيما قدمناه؛ فافهم.

[حديث: كانت إحدانا تحيض ثم تقترص الدم من ثوبها]

٣٠٨ - وبالسَّند قال: (حدثنا أصبغ) بالصاد المهملة، بعدها موحدة، آخره غين معجمة، هو ابن الفرج الفقيه المصري (قال: أخبرني) بالإفراد (ابن وهب) هو عبد الله بن وهب المصري (قال: حدثني) وفي رواية: (أخبرني) بالإفراد فيهما (عَمرو) بفتح العين المهملة (بن الحارث) بالحاء المهملة، هو المصري، (عن عبد الرحمن بن القاسم) هو ابن محمَّد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه (حدثه) أي: حدث عمرو بن الحارث، (عن أبيه) هو القاسم بن محمَّد، (عن عائشة) : الصديقة بنت الصديق رضي الله عنه أنها (قالت: كانت إحدانا)؛ أي: غير زوجات النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ومعناه: أنهنَّ لم يصبن ذلك في زمنه عليه السلام، وهذا المعنى منتفٍ، وحكم هذا الحديث الرفع، ويؤيده حديث أسماء الذي قبله، وقال ابن بطال: حديث عائشة يفسر حديث أسماء، والمراد بالنضح في حديث أسماء: الغسل، وأما قول عائشة: (وتنضح على سائره)؛ فإنما فعلت ذلك؛ دفعًا للوسوسة، كذا في «عمدة القاري».

(تحيض، ثم تقرص) بالقاف، والصاد المهملة على وزن (تفعِل)؛ أي: تغسله بأطراف أصابعها، وفي رواية: (تقترص) بزيادة مثناة فوقية، وبالصاد المهملة على وزن (تفتعل) (الدم من ثوبها)؛ أي: دم الحيض، وقال ابن الجوزي: معنى (تقرص) : تقطع كأنها تحوزه دون باقي المواضع، والأول أشبه بحديث أسماء؛ لأنَّ فيه: (فلتقرُصه)؛ بالقاف، وضم الراء، والصاد المهملة، وإنما أمر النَّبيُّ عليه السلام بالقرص؛ لأنَّ الدم وغيره مما يصيب الثوب إذا قرص؛ كان أحرى بأن يذهب أثره، وينقى الثوب منه؛ لأنَّ القرص يكون بالإصبعين، وهو قلعه وإزالته بهما، (عند طهرها) كذا في أكثر الروايات، وفي رواية: (عند طهره) أي: الثوب؛ أي: عند إرادة تطهيره، (فتغسله)؛ أي: الثوب بالماء وبكل مائع طاهر بأطراف أصابعها، (وتنضح) بالضاد المعجمة، والحاء المهملة؛ أي: الماء؛ أي: ترشه (على سائره) أي: سائر الثوب؛ لأجل دفع الوسوسة، (ثم تصلي فيه)؛ لأنَّه طاهر، وفي الحديث دليل على أن النجاسة في الثوب إذا خفي مكانها وتحرى وغسلها؛ طهر الثوب، ويرش على باقيه الماء؛ دفعًا للوسوسة، وفيه دليل على استحباب رش الماء على السراويل بعد الاستنجاء، وفيه دليل على أن العدد ليس بشرط في تطهير النجاسة، بل المقصود إنقاء المحل من العين والأثر، والله تعالى أعلم.

وفي يوم الثامن من رمضان سنة سبع وسبعين ومئتين وألف جاءت البوسطة من بيروت من أبرص من الماغوصه بنعي شيخنا وسيدنا العلامة الكبير والنحرير الشهير السيد محمَّد عمر نور الدين الغزيِّ العامري، مفتي الشافعية بدمشق، ودفن هناك، قدس سره، ورحمه الله رحمة واسعة، ألا وهو رأس تاج أهل دمشق، وفريد الأعصار، ونور الأمصار، ولبيب المعاني، وفصيح المباني، درة المحدثين، وخاتمة المحققين، ولا غرو؛ فإنه الشافعي الصغير، والهمام النحرير، نفعنا به في الدارين آمين.

(١٠) [باب الاعتكاف للمستحاضة]

هذا (باب) حكم (اعتكاف) المرأة (المستحاضة) في المسجد؛ يعني: يجوز اعتكاف المستحاضة إذا أمنت التلوث منها للمسجد، والاعتكاف في اللغة: هو اللبث، والعكف: هو الحسن، وفي الشريعة: هو اللبث في المسجد مع الصوم ونية الاعتكاف، وفي رواية: (باب الاعتكاف للمستحاضة)، وأكثر الروايات على ما ذكرنا؛ فافهم.

[حديث: أن النبي اعتكف معه بعض نسائه وهي مستحاضة ترى الدم]

٣٠٩ - وبالسَّند قال: (حدثنا إسحاق بن شاهِين)؛ بكسر الهاء، أبو بِشْر؛ بكسر الموحدة، وسكون الشين المعجمة، الواسطي، جاوز المئة، وفي رواية: سقط: (بن شاهين)، وبدله: (الواسطي) (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (خالد بن عبد الله) هو أبو الهيثم؛ بالمثلثة، الطحان، المتصدق بوزن نفسه فضة ثلاث مرات، (عن خالد) هو ابن مهران الذي يقال له: الحذَّاءبالحاء المهملة، والذال المعجمة المشددة، وبالمد، (عن عِكرمة) بكسر العين المهملة، هو ابن عبد الله،


(١) في الأصل: (القرض)، وهو تصحيف، وكذا في بعض المواضع اللاحقة.

<<  <   >  >>