للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

فتكون للترديد)، ورده في «عمدة القاري» بأن اعتبار الأداء باللفظ وإن كان الجمهور على عدم اشتراطه وأن المعنى كافٍ، ويحمل (أو) ههنا على الشك ولا معنى فيه للتنويع، ولا للتخيير، ولا للعطف، فلو كان الراوي يرى جواز الرواية بالمعنى؛ لاقتصر على أحدهما، فلمَّا تردد في التفرقة بين الدلو والسجل، وهما بمعنى واحد؛ عُلِم أن ذلك التردد لموافقة اللفظ، قاله القشيري، ولقائل أن يقول: إنَّما يتم هذا لو اتحد المعنى في السجل والدلو لغة، لكنه غير متحد، فالسجل: الدلو الضخمة المملوءة، ولا يقال لها فارغةً: سجل، هذا هو الصواب، انتهى.

(فإنما بعثتم ميَسِّرين)؛ بتشديد السين المهملة المكسورة، قبلها تحتية مفتوحة، منصوب على الحال، فإن قلت: المبعوث هو النبي الأعظم عليه السلام؛ قلت: لما كان المخاطبون مقتدين به ومهتدين بهديه كانوا مبعوثين أيضًا، فجمع اللفظ لذلك (١)، والحاصل أنه على طريقة المجاز؛ لأنَّهم لما كانوا في مقام التبليغ منه في حضوره وغيبته؛ أطلق عليهم ذلك، أو لأنَّهم لما كانوا مأمورين قبله بالتبليغ فكأنهم مبعوثون من جهته، كذا في «عمدة القاري».

(ولم تبعثوا معَسِّرين)؛ بكسر السين المهملة، وفتح العين المهملة، حال لـ (ميسرين)، وفائدة هذا مع أنه قد حصل المراد من قوله: (بعثتم) التأكيد بعد التأكيد، ودلالة على أنَّ الأمر مبني على اليسر قطعًا، فأشار عليه السلام بهذا إلى أنَّ بني إسرائيل إذا تنجس لهم ثوب؛ لا يطهره الماء بل يقرضوه، وإذا تنجست الأرض؛ لا تطهر أبدًا، على أنَّ في شريعتهم لا تصح الصَّلاة إلا في المسجد، كما يأتي في «الصحيح».

وبهذا التقرير اضمحلَّ ما زعمه العجلوني من أن (فيه رد على من أوجب الحفر في الأرض إذ لو وجب؛ لزال التيسير) انتهى.

ولم يدر الأحاديث التي وردت في الحفر التي قدَّمناها الصحيحة المسندة والمرسلة، والذي أوجب الحفر إنَّما هو النبي الأعظم عليه السلام؛ فانظر إلى قلة الأدب، وعدم الحياء؛ فليحفظ، ومنشأ ذلك التعصب والعناد، وقد سرق طبعه من طبع ابن حجر فإنَّ له العصبية الزائدة، والعنادية المكابرة؛ فافهم.

[حديث أنس في قصة الأعرابي]

٢٢١ - وبه قال: (حدثنا عَبْدان)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الموحدة، لقب عبد الله العتكي (قال: أخبرنا عبد الله)؛ هو ابن المبارك الإمام (قال: أخبرنا يحيى بن سَعِيد)؛ هو الأنصاري (قال: سمعت أنس بن مالك) رضي الله عنه، (عن النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم بهذا)؛ أي: باللفظ السابق لا اللاحق، كما زعمه العجلوني لعدم اضطلاعه، وأخرج البيهقي هذا الحديث من طريق عبدان هذا ولفظه: (جاء أعرابي إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فلما قضى حاجته، فأقام إلى ناحية المسجد، فبال، فصاح الناس به، فكفهم عنه، ثم قال: «صبوا عليه دلوًا من ماء».

(٥٨) [باب يهريق الماء على البول]

(ح) ثبتت في بعض الروايات، وقدمنا أنها إشارة للتحويل، وفي رواية بدلها: (باب يهريق الماء على البول)؛ بفتح الهاء؛ أي: يسكب، وفاعله عائد لما يفهم من الفعل، و (الماء) مفعوله، وسقط في أكثر الروايات لفظ الباب والترجمة، ولهذا لم يتعرض لها في «شرح الإمام البدر» قدس سره، بل ذكر الحديث فقط لتعلقه بالترجمة السابقة.

[حديث أنس: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ]

٢٢١ - م (وحدثنا)؛ بواو العطف على قوله: (حدثنا عبدان)، وهذا يعين سقوط لفظ (باب) والترجمة، وفي رواية: (حدثنا)؛ بإسقاط الواو (خالد بن مَخْلَد) بفتح الميم، وسكون المعجمة، وفتح اللام (قال: حدثنا سليمان)؛ هو ابن بلال، (عن يحيى بن سَعِيْد)؛ أي: الأنصاري، (قال: سمعت أنس بن مالك) رضي الله عنه أنه (قال: جاء أعرابي) بفتح الهمزة (فبال في طائفة المسجد)؛ أي: في ناحية من نواحي المسجد النبوي، (فزجره الناس)؛ أي: على البول بألسنتهم لا بأيديهم، (فنهاهم النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: عن زجره للمصلحة في دفع أعظم المفسدتين بارتكاب أخفَّهما، (فلمَّا قضى بوله)؛ أي: فرغ الأعرابي من بوله؛ (أمر النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: بعض أصحابه، وهذا يدل على أنَّ قليل النجاسة معفو عنه، وأنَّ الاستنجاء ليس بواجب؛ لأنَّه لو كان قليل النجس غير معفو عنه؛ لأمر النبي عليه السلام الأعرابي بإزالتها، ولأنَّه لو كان الاستنجاء واجبًا؛ لأمره به، فعدم أمره عليه السلام وتركه على ما فرغ دليل واضح على ما قلناه، ففيه ردٌّ على من زعم أن قليل النجاسة مانع لصحة الصَّلاة، وأن الاستنجاء واجب؛ فافهم، (بذَنوب)؛ بفتح الذال المعجمة: الدلو المملوء (من ماء) صفة لـ (ذنوب)، ونكر (ماء) ليشمل المائعات، فإن حكمها حكم الماء في الإزالة، (فأُهْريق)؛ بضمِّ الهمزة أوله، وبسكون الهاء أو ضمها، ولأبي ذر: (فهُرِيق)؛ بضمِّ الهاء، وكسر الراء على صيغة المجهول؛ ومعناه: أريق، والرواية الأولى رواية الباقين، وقال ابن التين: (هذا لا يصح إلا على قول سيبويه؛ لأنَّه فعل ماض، وهاؤه ساكنة، وأما على الأصل؛ فلا تجتمع الهمزة والهاء في الماضي) قال: ورويناه بفتح الهاء، ولا أعلم لذلك وجهًا، (عليه)؛ أي: على بول الأعرابي بعد أن جفَّ وتَسَفَّلَ الماء، أو حفر حفرة وأخرج التراب إن كانت صلبة، كما قدمناه من الأحاديث الصحيحة المسندة والمرسلة.

وزعم ابن حجر أنَّ في الحديث تعيين الماء لإزالة النجاسة؛ لأنَّ الجفاف بالريح أو الشمس لو كان يكفي؛ لما حصل التكلف بطلب الدلو.

قلت: وهذا الاستدلال فاسد؛ لأنَّ قوله في الحديث: (ماء)؛ بالتنكير يشمل الماء المطلق والمائعات المزيلة، وأشار به إلى أن حكم المائعات حكم الماء في الإزالة، فإنَّ ذكر الماء هنا لا يدل على نفي غيره؛ لأنَّ الواجب هو الإزالة، والمائع مزيل، فيقاس عليه كل ما كان مزيلًا؛ لوجود الجامع بينهما، على أن هذا الاستدلال يشبه الواقعة على الأرض طاهرة، وذلك لأنَّ الماء المصبوب لا بد أن يتدافع عند وقوعه على الأرض، ويصل إلى محل لم يُصِبْهُ البول مما يجاوره، فلولا أن الغسالة طاهرة؛ لكان الصب ناشرًا للنجاسة، وذلك خلاف مقصود التطهير.

وزعم ابن حجر أيضًا أن في الحديث أن الأرض إذا أصابتها نجاسة فجفت بالشمس أو بالهواء؛ لا تطهر.

وهو استدلال فاسد أيضًا؛ لأنَّ ذكر الماء في الحديث لوجوب المبادرة إلى تطهير المسجد، وتركه إلى الجفاف تأخير لهذا الواجب، وإذا تردد الحال بين الأمرين لا يكون دليلًا على أحدهما بعينه، ولنا أحاديث أخر؛ منها: ما رواه أبو داود عن عائشة، عن النبي الأعظم عليه السلام أنه قال: «ذكاة الأرض يبسها»؛ أي: طهارتها جفافها، إطلاقًا لاسم السبب على المسبب؛ لأنَّ الذكاة وهي الذبح سبب الطهارة في الذبيحة، فكذا الجفاف سبب الطهارة في الأرض، ومنها: ما رواه محمَّد ابن الحنفية، عن أبيه، عن النبي عليه السلام: «أيما أرض جفت؛ فقد ذكت»، ويدل لما قلنا قوله في الحديث: «فإنما بعثتم ميسرين»، ولو قلنا بعدم طهارتها؛ لزال معنى التيسير المأمور به، ولصاروا معسرين، وهو خلاف المأمور به، فتجوز الصَّلاة على الأرض التي أصابتها نجاسة، وجفت بالشمس أو الريح، وهو مذهب الإمام الأعظم، وسفيان الثوري، والحسن البصري، والجمهور، لكن اختلف في التيمم منها، فروي عن الإمام الأعظم جواز التيمم منها؛ كالصَّلاة عليها، وروي عنه عدم جواز التيمم منها، وهو ما مشى عليه أصحاب المتون، وهو الأظهر وعليه الفتوى، كما في «التبيين»، و «الإمداد»؛ لأنَّ طهارة


(١) في الأصل: (ذلك)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>