للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

أي: قال: يزيد لابن الأكوع: (يا با مسلم) : أصله (يا أبا) : حذفت الهمزة تخفيفًا، وهذا كنية سلمة ابن الأكوع (أراك) أي: أبصرك (تتحرى) أي: تجتهد، وتختار، وتقصد (الصلاة عند هذه الأسطوانة)؛ أي: من بين أساطين المسجد، فتخصها بالصلاة عندها، (قال) أي: سلمة: (فإنَّي رأيت النَّبي) الأعظم، وللأصيلي: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: حين يصلِّي في مسجده (يتحرى) أي: يختار (الصلاة عندها)؛ أي: عند أُسطوانة المهاجرين، يحتمل أنَّه كان يخصها رأفة ورحمة بالمهاجرين، ويحتمل لأنَّها مقدمة في السترة على العنزة.

وقال الشَّارح: (وينبغي أن تكون الأسطوانة أمامه ولا تكون إلى جنبه؛ لئلا يتخلل الصفوف شيء ولا يكون له سترة.

ومطابقته للتَّرجمة ظاهرة من قوله: «فيصلِّي عند الأسطوانة»، وقوله: «يتحرى الصلاة عندها») انتهى.

قلت: وفي الحديث: فضيلة الصلاة عند هذه الأُسطوانة، وروى ابن النجار في «تاريخ المدينة» عن عائشة رضي الله عنها أنَّها كانت تقول: (لو عرفها الناس؛ لاضطربوا عليها بالسهام)، وأنَّها أسرَّتها إلى ابن الزُّبير، فكان يكثر الصلاة عندها، وأنَّ المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها، انتهى، ومثله في «أخبار المدينة» لمحمَّد بن الحسن؛ فافهم.

والجمهور على أنَّ المصاحف التي نسخت بأمر الإمام عثمان كانت أربعة، أرسل واحدًا للكوفة، وآخر للبصرة، وآخر للشام، وترك واحدًا عنده بالمدينة.

وقيل: كتب سبعة، بعث واحدًا إلى مكة، وآخر للشام، وآخر لليمن، وآخر للبحرين، وآخر للبصرة، وآخر للكوفة، وحبس بالمدينة واحدًا.

فالمتفق عليها خمس: مصحف الشام، ومكة، والمدينة، والبصرة، والكوفة، واختلف في ثلاثة: مصر، واليمن، والبحرين.

والذي عليه الجم الغفير من العلماء وفضلاء الشام أنَّ المصحف الموجود الآن بالشام في الجامع الشَّريف الأموي في بيت الخطابة، هو الذي عليه دم سيدنا عثمان رضي الله عنه على قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [البقرة: ١٣٧]، وهذا مما بلغ حد التواتر، وهو الصَّواب، وما زعمه أهل مصر أنَّه الموجود في قبة السلطان الغوري؛ فلا أصل له؛ لأنَّه لم يُبْعَث لهم مصحف على قول الجمهور، فكيف يكون عندهم هذا؟ ويدل للأول أنَّ بني أمية كانت سلطنتهم في الشام وكانوا يستصحبون هذا المصحف معهم في الخزائن، فهو هو بلا ريب، والله أعلم.

[حديث: رأيت كبار أصحاب النبي يبتدرون السواري عند المغرب]

٥٠٣ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا قَبِيْصة)؛ بفتح القاف، وكسر الموحَّدة، وسكون التحتية: هو ابن عقبة الكوفي (قال: حدثنا سفيان) هو الثَّوري الكوفي، (عن عَمرو) بفتح العين المهملة (بن عامر) هوالأنصاري الكوفي، قال الشَّارح: (وليس هو والد أسد، فإنَّه بجلي، ولا عمرو بن عامر البصري، فإنَّه سلمي) انتهى، (عن أنس) زاد الأصيلي: (ابن مالك) هوالأنصاري خادم النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم أنَّه (قال: لقد أدركت) هكذا في رواية المستملي والحموي، وفي رواية غيرهما: (لقد رأيت) (كِبار) : جمع كبير؛ بمعنى: عظيم؛ ككريم وكِرام (أصحاب) : جمع صاحب، أو اسم جمع له؛ بمعنى: صحابي (محمَّد) هو علم على النَّبي الأعظم نبينا، وفي نسخة: (النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) والمفعول الثاني لـ (رأيت) أو (أدركت) هو جملة قوله: (يبتدرون السواري)، جمع سارية، وهي الأُسطوانة؛ أي: يتسارعون إليها ليجعلوها سترة لصلاتهم (عند المغرب)؛ أي: عند أذان المغرب، كما صرح به مسلم والإسماعيلي، وهذا الابتدار هو الإجابة للصلاة بالفعل فلا حاجة لإجابة المؤذن حينئذٍ بالقول؛ لأنَّ في ابتدارهم إجابة وزيادة، وليس المراد: بعد إجابة المؤذن؛ لأنَّها مقدمة، كما زعمه العجلوني؛ لأنَّ المراد: أنَّهم لمَّا سمعوا الأذان؛ ابتدروا فهو إجابة بالفعل، وهي أبلغ من الإجابة بالقول.

(وزاد شعبة) هو ابن الحجاج، (عن عَمرو)؛ بفتح العين: هو ابن عامر المذكور، (عن أنس) هو ابن مالك: (حتى) وفي رواية: (حين) (يخرج النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: من بعض حجر نسائه.

قال الشَّارح: (وهذا تعليق وصله البخاري في كتاب «الأذان» من طريق غندر، عن شعبة، عن عمرو بن عامر الأنصاري، وزاد فيه أيضًا: «يصلُّون الركعتين قبل المغرب») انتهى.

وبهذا أخذ الشَّافعي في استنان صلاة ركعتين خفيفتين قبل المغرب، وهو قول أحمد، وإسحاق، وأهل الظَّاهر.

والمشهور عن أصحاب الشَّافعي عدم استنانهما، بل ولا استحبابهما، وهو قول الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، وهو قول أبي بكر الصديق الأكبر، وعمر الفاروق، وعثمان ذي النورين، وعلي الصديق الأصغر رضي الله عنه، وهو قول كثير من أصحاب النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وبه قال مالك، وقال إبراهيم النخعي: هي بدعة، وسيأتي في بابه بقية الكلام عليه.

وفي الحديث: استحباب الصلاة أول وقتها.

وفيه: المبادرة للطاعات خصوصًا الصلاة.

وفيه: استحباب الصلاة إلى سترة، ولو كانت مغصوبة، خلافًا لأحمد.

واعلم أنَّ السترة للمصلي على وجوه؛ أحدها: نحو الأُسطوانة، والجدار، والعمود، الثاني: نحو العصا، والحربة المغروزة، والمتاع إذا كانت الأرض صلبة، الثالث: بسط مصلًّى؛ كسجادة مفروشة، الرابع: أن يخط أمامه خطًًا بالعرض مثل الهلال، وقيل: مدور شبه المحراب.

والسُّنة أن يقرب منها؛ لما رواه أبو داود مرفوعًا: «إذا صلى أحدكم إلى سترة؛ فليدن منها، لا يقطع الشَّيطان عليه صلاته»، ولا يزيد ما بينها وبينه على ثلاثة أذرع، واعتبار ذلك من عقب القدمين كما صرح به المحشي، وبه قال ابن حجر من الشَّافعية، وخالفه الرملي، وزعم أنَّه من الأصابع، ويجعل السترة على جهة أحد حاجبيه؛ لما رواه أبو داود وغيره عن المقداد أنَّه قال: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي إلى عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، لا يصمد [له] صمدًا)؛ يعني: لا يقابلها مستويًا مستقيمًا، بل كان يميل عنها إلى جهة اليمين، وروى أبو داود مرفوعًا: «إذا صلى أحدكم؛ فليجعل أمامه شيئًا، فإن لم يجد؛ فلينصب عصًا، فإن لم يكن معه عصًا؛ فليخط خطًّا، ثم لا يضره ما مرَّ أمامه)، وقاس الأئمة السجادة على الخط، وقدم على الخط؛ لأنَّه أظهر للمارِّين.

ولا بدَّ في جميع هذه المذكورات أن تكون ذراعًا (١) فصاعدًا؛ لما رواه الحاكم عن أبي هريرة مرفوعًا: «يجزئ من السترة قدر مؤخر الرحل»، وروى أصحاب السنن عن عطاء قال: آخرة الرحل: ذراع فما فوقه).

وأن تكون السترة في غلظ الأصبع؛ لأنَّ بما دونها لا يظهر للناظر؛ لحديث أصحاب السنن مرفوعًا: «استتروا في صلاتكم ولو بسهم»، وإطلاق الأحاديث في الأمر بوضع سترة، والسهم ليس بأقل


(١) في الأصل: (ذراع)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>