للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

(وفي الحديث دليل على جواز الاستعانة في الوضوء، وهي على ثلاثة أقسام؛ أحدها: في إحضار الماء، فهذا لا كراهة فيه، والثاني: في غسل الأعضاء، فيستعين في غسلها ويباشر الأجنبي بنفسه غسل الأعضاء، فهذا مكروه إلا لحاجة، والثالث: أن يصب عليه، فهذا مكروه في أحد الوجهين، والأولى تركه).

واعترضه الكرماني: (بأن فيه حزازة؛ لأنَّ ما فعله عليه السلام لا يقال فيه: الأولى تركه؛ لأنَّه عليه السلام لا يتحرى إلا ما فِعلُه أولى، وإذا قلنا: الأولى تركه، كيف ينازع في كراهته وليس حقيقة المكروه إلا ذلك؟!) انتهى.

قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ المكروه في حقِّنا لا يكره فعله في حق النبي الأعظم عليه السلام، كما صرحوا به؛ لأنَّه يفعله؛ لبيان الجواز، وهو واجب في حقِّه، بقي أن قوله: (وإذا قلنا: الأولى تركه... إلخ) هذا حقيقة المكروه تنزيهًا لا المكروه تحريمًا؛ لأنَّ مرجعَ كراهة التنزيه خلافُ الأولى، كما في «فتح القدير»؛ فافهم، وأما قوله: (من أنَّ الاستعانة في إحضار الماء لا كراهة فيها) ينافيه أنَّه خلاف الأولى والأفضل تركه؛ فليحفظ.

وأمَّا ما روي مرفوعًا: «أنا لا أستعين في وضوئي بأحد»، وأنَّه قاله عليه السلام لعمر لما بادر لصَبِّ الماء عليه؛ فقال في «شرح المهذب» : (إنه حديث باطلٌ لا أصل له)، وقال في «عمدة القاري» : ذكره الماوردي في «الحاوي» بسياق آخر، فقال: رُوي أنَّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه همَّ بصبِّ الماء على يد النبيِّ عليهالسلام، فقال: «إني لا أحب أن يشاركني في وضوئي أحد»، وهذا الحديث لا أصل له، والذي وقع على زعم الراوي كان لعمر دون أبي بكر رضي الله عنهما، ثم قال: فإن قلت: هل يجوز أن يستدعي الإنسان الصَّبَّ من غيره بأمره؟ قلت: نعم يجوز؛ لما روى الترمذي محسنًا من حديث ابن عقيل عن الرُّبيِّع قال: أتيت رسول الله عليه السلام بميْضَأَة، فقال: «اسكبي»؛ فسكبت، فذكرَتْ وضوءه عليه السلام، ورواه الحاكم في «المستدرك»، وقال: لم يحتج المؤلف بابن عقيل، وهو مستقيم الحديث متقدم في الشرف (١)، وروى ابن ماجه بسند صحيح على شرط ابن حبان من حديث صفوان بن عسال قال: «صببت على النبي عليه السلام الماء في السفر والحضر في الوضوء»، وعنده أيضًا بسند معلل عن أم عياش، وكانت أمَة لرقية بنت النبي عليه السلام قالت: «كنت أوضِّئ النبي عليه السلام أنا قائمة وهو قاعد»، وممن كان يستعين على وضوئه بغيره (٢) من السلف عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقال الحسن: رأيته يُصَبُّ عليه من إبريق، وفعله عبد الرحمن بن أبزى، والضحاك بن مزاحم، وقال أبو الضحى: لا بأس للمريض أن يوضئه الحائض، قلت: ومثلها النفساء والمستحاضة، فهذا دليل واضح على أن الاستعانة بغيره غير مكروهة سواء كانت بالصب أو ببقية غسل الأعضاء، وإن كان الأفضل تركها، كما قدمناه، والله تعالى أعلم.

[حديث: كان مع رسول الله في سفر وأنه ذهب لحاجة له]

١٨٢ - وبه قال: (حدثنا عَمرو بن عَلي)؛ بفتح العين فيهما، الفلاس، أبو الفضل، الصيرفي الباهلي البصري، المعروف جدُّه بالسَّقَّاء، المتوفى بالعسكر أو بسر من رأى سنة تسع وأربعين ومئتين (قال: حدثنا عبد الوهاب)؛ هو ابن عبد المجيد الثقفي البصري، المتوفى سنة أربع وتسعين ومئة عن ثمانين سنة (قال: سمعت يحيى بن سعِيد)؛ بكسر العين المهملة، الأنصاري التابعي (قال: أخبرني) بالإفراد (سعْد) بسكون العين، (بن إبراهيم)؛ هو ابن عبد الرحمن بن عوف القرشي التابعي، قاضي المدينة المتوفى بها سنة سبع وعشرين أو خمس وعشرين عن اثنتين وسبعين سنة: (أنَّ نافع بن جُبير) بضم الجيم والتصغير (بن مُطْعِم)؛ بضم الميم، وسكون الطاء، وكسر العين المهملتين، النوفلي التابعي المدني، المتوفى بالمدينة سنة تسع وتسعين (أخبره)؛ أي: أخبر نافعٌ سعدًا: (أنه سمع عروة بن المُغيرة بن شعبة) الثقفي الكوفي (يحدث عن المُغيرة)؛ بضم الميم وكسرها، أبو عروة المذكور (بن شعبة) الصحابي المشهور، أسلم قبل الحديبية، وولي إمرة الكوفة، توفي سنة خمسين على الصحيح، و (المغيرة) باللام مثل (الحارث) في أنه علَم يدخله اللام للتعريف على سبيل الجواز لا مثل (النجم) للثريا، فإن التعريف باللام لازم فيه، ودخلت اللام في مثل (المغيرة)؛ لإفادة لمح الوصفية، أفاده في «عمدة القاري» : (أنه) أي: المغيرة (كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأدَّى عروة كلام أبيه بعبارة نفسه، وإلا فكان يقتضي أن يقول: (قال أبي: كنت) (في سفر)؛ أي: مصاحبًا له في تلك السفرة، (وأنه) عليه السلام (ذهب لحاجة له) عليه السلام؛ أي: للبول أو للغائط، (وأن مغيرة) وفي رواية: (وأن المغيرة)؛ باللام التي للَّمح، فأدى عروة كلام أبيه بعبارة نفسه، كما سبق (جعل)؛ أي: طفق، من أفعال المقاربة (يصبُّ الماءَ عليه) وفي رواية بإسقاط لفظ: (الماء) الذي هو مفعول (يصب)، لكن القرينة دالة عليه، وإنما أتى بلفظ المضارع؛ إشعارًا لحكاية الحال الماضية، ولو كان عروة يريد حكايةً للفظ أبيه؛ لقال: (وإني جعلت أصبُّ)، ولو لم يراع الحكاية؛ قال: (وإن أبي)، قلت: ولعلَّ فيه التفاتًا على رأي السكاكي؛ فتأمل.

(وهو)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (يتوضأ) جملة اسمية وقعت حالًا، (فغسل وجهه ويديه)؛ بالتثنية، والفاء فيه هي الفاء التي تدخل بين المجمل والمفصَّل؛ لأنَّ المفصَّل كأنه يعقب المجمل؛ كما ذكره الزمخشري في قوله تعالى: {فَإِن فَاؤُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ*وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: ٢٢٦ - ٢٢٧]؛ لتفصيل قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ} [البقرة: ٢٢٦]، وإنما قال: (فغسل) بلفظ الماضي، ولم يقل بلفظ المضارع المناسب للفظ: (يتوضأ)؛ لأنَّ الماضي هو الأصل، وعدل في (يتوضأ) إلى المضارع؛ حكاية عن الحال الماضية.

(ومسح برأسه ومسح على الخفين) إنَّما ذكر في الأول حرف الإلصاق؛ لأنَّه الأصل، وفي الثاني بكلمة (على)؛ نظرًا للاستعلاء، كما يقال: مسح إلى الكعب؛ نظرًا إلى الانتهاء، بحسب المقاصد تختلف صلات الأفعال، وإشارة إلى أن المسح إنَّما يكون على أعلى الخفين لا على جوانبه ولا على أسفله، وقد قال علي رضي الله عنه: (لو كان الدين بالرأي؛ لكان المسح على الخفين على أسفله لا على أعلاه)، وإنما كرر لفظ (مسح)، ولم يكرر لفظ (غسل)؛ لأنَّه يريد بذكر المسح على الخفين بيان تأسيس قاعدة شرعية، فصرَّح استقلالًا بالمسح عليهما، بخلاف قضية الغسل، فإنها مقررة بنص القرآن، ففيه جواز الاستعانة بغيره في الوضوء، لكن من ادَّعى أن الكراهة مختصة بغير المشقة والاحتياج؛ لا يتم له الاستدلال بهذا الحديث؛ لأنَّه كان في السفر، وفيه: أن من الأدب خدمة الصغير للكبير، ولو كان لا يأمر بذلك، كذا في «عمدة القاري»، والله تعالى أعلم.

وفي يوم الجمعة يوم السادس عشر محرَّم سنة سبع وسبعين ومئتين وألف، قد ضاق حال الناس أشد الضيق، وسُكِّرت أبواب البلد بسبب قتل النصارى وأخذ أموالهم، فأتى للشام فؤاد باشا ناظر الخارجية، وعبد الحليم باشا سر عسكر، ومحمد معمر باشا والي البلد، ومحمد أفندي قاضي الروملي؛ لأجل هذه المصلحة، فأمروا بمسك كل من أتى لهم بأموال من النصارىوحبسوه، ولا ندري ما يفعل به، ونسأل الله الحنان المنان أن يرفع هذه الشدة، ويفرج هذه الرزية العظيمة التي تذوب منها الأكباد يا ستار.

وفي ليلة الرابع عشر من تلك الشهر والسنة كسف القمر بين العشاءين، وكان في تموز، وفي أول تموز كسفت الشمس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولو أوفينا الكلام؛ لبلغ مجلدات كثيرة، والله المستعان.

(٣٦) [باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره]

هذا (باب) جواز (قراءة القرآن) العظيم (بعد الحدث)؛ أعم من الأصغر والأكبر؛ لأنَّه المراد منهما عند الإطلاق، وأمَّا قراءة القرآن بعد الأصغر؛ فتجوز دون الأكبر، وقال ابن حجر وتبعه العجلوني: (إن المراد بالحدث: الأصغر فقط)، ولا وجه لذلك؛ لأنَّه إن أراد أن المؤلف تعرض هنا إلى حكم القراءة بعد الأصغر دون الأكبر؛ فممنوع؛ لأنَّ عادة المؤلف أنه يُبَوِّبَ الباب بترجمة، ثم يذكر جزءًا مما يشتمل عليه تلك الترجمة،


(١) في الأصل: (الرق)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (بعشرة)، ولعله تحريف عن المثبت.

<<  <   >  >>