للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

من العلم.

(فأما) للتفصيل، (أحدهما)؛ أي: أحد الوعاءين من نوعي العلم؛ (فبَثثته) : جواب (أما)، ودخلت عليه الفاء؛ لتضمنها معنى الشرط، وهو بموحدة مفتوحة ومثلثتين بعدهما مثناة فوقية؛ أي: نشرته وكشفته، زاد الإسماعيلي: (في الناس)، (وأما) الوعاء (الآخر) منهما، (فلو بثثته)؛ أي: نشرته وكشفته للناس؛ (قطع) : جواب (لو)، وفي رواية: (لقطع) باللام، (هذا البلعومُ) : مرفوع بإسناد قطع إليه، وهو مفعول ناب عن الفاعل، وفي رواية الإسماعيلي: (لقطع هذا) يعني رأسه، فكنى به عن القتل، فأراد بالأول: الذي حفظه من السنن المذاعة لو كتبت؛ لاحتمل أن يملأ منها وعاء، وبالثاني: ما كتمه من أخبار الفتن، وأشراط الساعة، وما عرف به النبي الأعظم عليه السلام من فساد الدين على يد أغيلمة سفهاء قريش.

وكان أبو هريرة يقول: (لو شئت ان أسميهم بأسمائهم لسميتهم لكني خشيت على نفسي) فلم يصرح بهم، فالأمر بالمعروف على هذا، وكان يقول: (أعوذ بالله من رأس سنة ستين وإمارة الصبيان)، يشير بذلك إلى خلافة يزيد بن معاوية؛ لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، فاستجاب الله دعاءه فمات قبلها، فإنه لو حدث بهذه الأحوال؛ لقطع البلعوم.

وقالت المتصوفة: المراد بالأول: علم الأحكام والإطلاق، وبالثاني: علم الأسرار المصون عن الأغيار المختص بالعلماء بالله من أهل العرفان.

قال القسطلاني في «شرحه» : لكن في كون هذا هو المراد نظر؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لما وسع أبو هريرة كتمانه مع ما ذكره من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ...} [البقرة: ١٥٩] إلى آخر الآيتين الدالة على ذم كتمان العلم، وأيضًا فإنَّه نفى بثه على العموم من غير تخصيص، فكيف يستدل به لذلك، وأبو هريرة لم يكشف مستوره؟! فمن أين علم أن الذي كتمه هو هذا؟!

فمن ادعى ذلك؛ فعليه البيان، فقد ظهر أن الاستدلال به لهم فيه نظر ظاهر، انتهى كلامه.

قلت: وكذا قوله عليه السلام: «من كتم علمًا؛ ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة»، ولو كانت الأحاديث التي لم يحدث بها من الحلال والحرام؛ لما وسعه كتمها بحكم الآية والحديث الدالة على ذم الكتمان، ولا ريب أن أبا هريرة أعلم وأحرى بالأحكام، فلو كان المراد به ذلك؛ لكشفه ونشره بين الناس ودخل تحت الأحاديث الدالة على فضل العلم وتعليمه.

وقال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: (إن كان المراد من الثاني هو ما قالته المتصوفة يشترط فيه أن لا تدفعه القواعد الإسلامية ولا تنفيه القوانين الإيمانية؛ إذ ما بعد الحق إلا الضلال) انتهى.

قلت: فأشار به إلى أنه لو كان مطابقًا للشريعة المطهرة؛ فلا يتصور كتمانه من أبي هريرة، وإن كان غير مطابق لها؛ فهو ما قدمناه من أمور الفتن وحكام الجور وغيرها.

(قال أبو عبد الله)؛ أي: المؤلف، كما في رواية المستملي، (البُلعوم)؛ بضم الموحدة، (مجرى الطعام)؛ أي: في الحلق وهو المري، كذا فسره القاضي والجوهري، وقال الفقهاء: الحلقوم: مجرى النفس، والمري: مجرى الطعام والشراب، وهو تحت الحلقوم، والبلعوم تحت الحلقوم، وقال ابن بطال: البلعوم: الحلقوم وهو مجرى النفس إلى الرئة، والمري: مجرى الطعام والشراب إلى المعدة فتصل بالحلوق، والمقصود: أنه كنى بذلك عن القتل، كما في «عمدة القاري».

قلت: وما قدمناه هنا يدل على بطلان قول من قال في زماننا: أن ذنوب أهل البيت النبوي صوري لا معنوي؛ أي: بحسب الصورة ذنب لا في المعنى، وأن المغفرة لهم محققة بدون توبة، وأنهم خير الخلق بدون استثناء الأنبياء والمفضلين من الصحابة، مستدلًا بقوله تعالى: {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: ٣٣]، وبقول الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي في «الفتوحات».

قلت: وهذا باطل؛ لأنَّه لم يوجد قول لأحد من المذاهب الأربعة المجمع عليها بذلك، وقد قال النبي الأعظم عليه السلام: «من أحدث شيئًا لم يكن في الشريعة فهو رد»، والآية المستدل بها معناها أنَّه تحرم عليهم الصدقة؛ لأنَّها أوساخ الناس، والتمييز بالعمائم، والتعظيم، والاحترام وغير ذلك، وما ذكره من معناها فهو مردود؛ لأنَّه لم يقل به أحد من المفسرين قديمًا وحديثًا.

وقال عليه السلام: «من فسَّر القرآن برأيه كبَّه الله في النار يوم القيامة»، ويدل لهذا قوله تعالى حكاية عن نوح: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: ٤٦]، فابن نوح لما التجأ (١) إلى الجبل وأنه يعصمه من الماء عند الغرق؛ أخرجه الله تعالى من أهله وجعله في النار، وكذا أبو طالب عمُّ المصطفى عليه السلام، وكذا أبو جهل، وأبو لهب؛ فإنَّهم جميعًا في النار، كما نطق بذلك الكتاب والسنة، فلو كانت الذنوب مغفورة لهم بدون توبة؛ لغفر لهم وأدخلوا الجنة، وهذا يدل على بطلان قوله أيضًا: من أنه لا يختم لأحد منهم بالكفر، وأن الله شاء المغفرة لهم، وبطلان هذا ظاهر؛ فإنَّ الموت على الإيمان أو على الكفر لا يعلمه أحد أصلًا؛ لقوله عليه السلام: «إن العبد ليعمل بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار»، رواه الشيخان.

وقال تعالى: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: ١٢٩]، ومشيئته تعالى مختصَّة به لا يعلمها أحد من خلقه، وهو مذهب أهل السنة والجماعة من الماتريدية والأشعرية وإجماع المسلمين، ويدلُّ لذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: ٤٨]، فجميع الآيات الدالة على المغفرة مقرونة بالمشيئة، وقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: ٣٠].

قال الإمام القرطبي: (لو فعل أحدٌ منهم شيئًا يوجب الحدَّ مرة؛ يُحدُّ مرتين؛ لهذه الآية، وقال عليه السلام: «من أبطأ به عمله؛ لم يسرع به نسبه»، ويدل لذلك قوله تعالى: {فَلَاأَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: ١٠١]).

وأما قول الشيخ الأكبر فقد قال علماؤنا الأعلام: يحرم مطالعة كتب الشيخ الأكبر وقد أتى أمر سلطاني بالنهي عن بيعها، وشرائها، ومطالعتها، وقال الإمام الشعراني: في العهود الصغرى أخذ علينا العهود أن نمنع الناس من مطالعة كتب الشيخ الأكبر؛ لعدم فهم معناها، اهـ.

فالتفاضل الحقيقي بين الناس إنَّما هو بالتقوى، فلا يفيد الشريف النسب نسبه إذا لم يكن من أهل التقوى، ويفيد الوضيع النسب بالتقوى، قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: ١٣]، وقد ألف رسالة في ذلك وذكر الأحاديث الواردة في حق أهل البيت منها منكر، ومنها ضعيف، ومنها موضوع من الشيعة، وقد ركب فيها متن عمياء وخبط خبط عشواء، وقال فيها ولا يدري ما يقول، وقد وافقه عليها بعض ممن يدعي العلم، وكتب له عليها فضلَّ وأضلَّ، وجمهور العلماء الأعلام ورئيسهم الإمام محقق المعقول والمنقول شيخ الإسلام والمسلمين شيخنا الشيخ عبد الله أفندي الحلبي أدمنا بحياته فلم يلتفت إليها، ولا عرجوا عليها، بل ردوها ولم يكتب أحدٌ عليها، ووقع خبط بين العلماء بديارنا الشريفة الشامية من أجل هذه الرسالة البدعة المنكرة، وأجمع الجمهور على بطلانها وردِّها ولله الحمد والمنة.

اللهم إنِّي أسألك علمًا نافعًا، وقلبًا خاشعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا متقبلًا، وجاهًا عريضًا، وأولادًا كثيرة بجاه الأنبياء وأصحابهم والمجتهدين وأتباعهم، وأن يحفظنا من الزيغ والضلال، ويوفقنا لما يحب ويرضى إنه على كل شيء قدير، وصلى الله عليهم أجمعين.

(٤٣) [باب الإنصات للعلماء]

هذا (باب الإنصات)؛ بكسر الهمزة: السكوت والاستماع، (للعلماء)؛ أي: لأجل ما يقولونه، فاللام للتعليل.

[حديث: أن النبي قال له في حجة الوداع: استنصت الناس]

١٢١ - وبه قال: (حدثنا حَجاج)؛ بفتح الحاء، ابن منهال الأنماطي، (قال: حدثنا شعبة) : هو ابن الحجاج، (قال: أخبرني)؛ بالإفراد، (علي بن مُدْرِك)؛ بضم الميم وكسر الراء، النخعي الكوفي، المتوفى سنة عشرين ومئة، (عن أبي زُرْعَة)؛ بضم الزاي، وسكون الراء،


(١) في الأصل (التجئ).

<<  <   >  >>