للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

التطهير بذلك الماء، وبما يفضل منه، كذا قرره إمام الشارحين في «عمدة القاري»، ثم قال: (ومطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث جواز إدخال الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها إذا لم يكن عليها قذر، يدل عليه قول عائشة: «تختلف أيدينا فيه»، واختلاف الأيدي في الإناء لا يكون إلا بعد الإدخال، فدل ذلك على أنَّه لا يفسد الماء، فإن قلت: الترجمة مقيدة، وهذا الحديث مطلق.

قلت: القيد المذكور في الترجمة مراعًى في الحديث للقرينة الدالة على ذلك؛ لأنَّ شأن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وشأن عائشة أجل من أن يدخلا أيديهما في إناء الماء، وعلى أيديهما ما يفسد الماء، وحديث هشام الآتي أقوى القرائن على ذلك، وهذا هو التحقيق في هذا الموضع، وبهذا ظهر فساد ما ذكره الكرماني من أنَّ ذلك ندب، وهذا جائز) انتهى كلام «عمدة القاري».

وزعم ابن حجر أنَّ في الحديث دلالة على أنَّ النهي عن انغماس الجنب في الماء الدائم إنَّما هو للتنزيه؛ كراهية أن يستقذره لا لكونه يصير نجسًا بانغماس الجنب فيه.

ورده صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: (هذا الكلام على إطلاقه غير صحيح؛ لأنَّ الجنب إذا انغمس في الماء الدائم لا يخلو إمَّا أن يكون ذلك الماء كثيرًا أو قليلًا، فإن كان كثيرًا؛ نحو الغدير العظيم الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر، فإنَّ الجنب إذا انغمس فيه لا يفسد الماء، وهل يطهر الجنب أم لا؟ فيه خلاف) انتهى.

واعترضه العجلوني فقال: (لا إطلاق في كلامه للقرينة الدالة على التقييد، وهي قوله: «كراهية أن يستقذر»، ولئن سلمنا أنَّه مطلق؛ فالنهي للتنزيه، كما قال، وحينئذٍ فلا يفسد الماء بتنجيسه وإن كان يسلبه الطهورية لو كان قليلًا) انتهى.

قلت: وهو مردود، فإنَّ الإطلاق في كلامه ظاهر.

وقوله: (كراهية أن يستقذر) ليس بقرينة على عدم الإطلاق؛ لأنَّ القرائن لا بد لها من دليل، ولم يوجد، بل القرينة ظاهرة على الإطلاق؛ لأنَّه عليه السلام حين يتوضأ؛ يبتدر الصحابة وضوءه، فهو دليل على أنَّ قوله: (كراهية أن يستقذر) ممنوع؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لما فعل الصحابة ذلك، وصرح أئمتنا بجواز شربه، والعجن به، وغير ذلك.

وقوله: (ولئن سلمنا...) إلخ تسليم منه هذا الإطلاق.

وقوله: (فالنهي للتنزيه...) إلخ ممنوع؛ فإنَّه عليه السلام قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسلن فيه من الجنابة»، فهذا النهي مطلق، وهو يوجب التحريم، كما هو ظاهر على أنَّ فساد الفعل مشروع عندنا، وهو قول الجمهور خصوصًا على قول إمامه الشافعي إذا تجرد عن التأكيد، فكيف وقد أُكِّد؟ ولأنَّه لو كان كذلك؛ لما قُيِّد بالدائم، فالجاري يشاركه فيه، ولأنَّه نهاه عن الاغتسال مع شدة الاحتياج إليه؛ لأنَّه مأمور به، فلو لم يستأثر المأمور به؛ لم يفد النهي، وكلام الشارع مصون عن عدم الفائدة، ولأنَّ القياس في الكثير أن ينجس؛ لأنَّ الجزء الذي لاقته النجاسة ينجس بملاقاة النجاسة إياه، وإذا تنجس ذلك الجزء؛ تنجس الجزء الذي يليه بالسريان إليه، وهكذا حتى ينجس جميع الماء، لكن تركنا القياس في الكثير؛ للضرورة؛ لأنَّ صون الكثير في الأواني غير ممكن ولا ضرورة في القليل؛ لإمكان صونه في الأواني، فعملنا فيه بالقياس، وتمامه في «منهل الطلاب»؛ فافهم.

[حديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل يده]

٢٦٢ - وبه قال: (حدثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدثنا حمَّاد)؛ بالحاء المهملة، وتشديد الميم: هو ابن زيد؛ لأنَّ البخاري لم يرو عن حمَّاد بن سَلَمَة، كذا قاله في «عمدة القاري»، (عن هشام) : هو ابن عروة، (عن أبيه) : هو عروة بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما، (عن عائشة) : الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (قالت: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) وأفادت (كان) أنَّ ذلك كان على الدوام والاستمرار (إذا اغتسل من الجنابة)؛ أي: إذا أراد الاغتسال منها؛ (غسل يده)؛ بالإفراد، وفي رواية: (يديه)؛ بالتثنية؛ أي: قبل أن يدخلهما الإناء.

قال صاحب «عمدة القاري» : (هذا الحديث مفسِّر للحديث السابق؛ لأنَّ في الحديث السابق اختلاف الأيدي في الإناء، وظاهره يتناول اليد الطاهرة واليد التي عليها ما يفسد الماء، وبيَّن في هذا أنَّه إذا اغتسل من الجنابة؛ غسل يده؛ يعني: إذا أراد الاغتسال من الجنابة؛ غسل يده، ثم بعد ذلك لا يضر إدخاله اليد في الإناء، لكن هذا عند خشيته من أن يكون بها أذى من الجنابة أو غيرها، أمَّا عند تيقنه بطهارة اليد، فلم يكن يغسلها؛ فبهذا ينتفي التعارض بينهما، أو يكون الحديث السابق محمولًا على تيقنه بعدم طهارة الأخرى، وهذا بظاهره يدل على أنَّه يغسلها قبل إدخالها في الإناء؛ لعدم تيقنه بطهارتها)، ثم قال: والبخاري أخرج هذا الحديث مختصرًا، وأخرجه أبو داود في (الطهارة) عن سليمان بن حرب ومسدد؛ كلاهما عن حمَّاد بن زيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا اغتسل من الجنابة) قال سليمان: (يبدأ فيفرغ بيمينه)، وقال مسدد: (غسل يده، فصب الإناء على يده اليمنى)، ثم اتفقا: (فيغسل فرجه)، ثم مسدد: (يفرغ على شماله- وربما سكت عن الفرج- ثم يتوضأ كوضوئه للصلاة، ثم يدخل يده في الإناء، فيخلل شعره حتى إذا رأى أنَّه أصاب البشرة أو أنقى البشرة؛ أفرغ على رأسه ثلاثًا، وإذا فضل فضلة؛ صبَّها عليه) انتهى.

[حديث: كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من جنابة]

٢٦٣ - وبه قال: (حدثنا أبو الوليد) : هو هشام بن عبد الملك البصري الطيالسي (قال: حدثنا شعبة) : هو ابن الحجاج، (عن أبي بكر بن حفص) : هو ابن غياث، (عن عروة) : هو ابن الزبير بن العوام، (عن عائشة) : الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (قالت) وفي رواية بحذف (قالت) : (كنت أغتسل أنا والنبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بالرفع والنصب، وسبق توجيههما قريبًا، (من إناء واحد من جنابة) وفي رواية الكشميهني: (من الجنابة)، وههنا كلمة (من) في موضعين، فالأولى متعلقة بمقدر؛ كقولك: خذ من الماء من إناء واحد، أو الأولى ظرف مستقر، والثانية لغو، ويجوز تعلق الجارين بفعل واحد إذا كان بمعنيين مختلفين، فإنَّ الثانية بمعنى لأجل الجنابة، والأولى بمعنى الابتداء، كذا قرره صاحب «عمدة القاري»، (وعن عبد الرحمن) هذا معطوف على قول شعبة: (عن أبي بكر حفص)، (بن القاسم) : هو ابن محمَّد الفقيه الرضي بن الرضي، وأمه أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال ابن عيينة: (لم يكن بالمدينة رجل أرضى من عبد الرحمن، كان ثقة، ورعًا، كثير الحديث، مات سنة ست وعشرين ومئة، قيل: بالمدينة، وقيل: بالقدس)، (عن أبيه) : هو القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، (عن عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (مثله)؛ بالنصب والرفع؛ أي: مثل حديث شعبة، عن أبي بكر بن حفص، وللأَصيلي: (بمثله)؛ بزيادة الموحدة.

قال صاحب «عمدة القاري» : (فبيَّن بهذا أنَّ لشعبة إسنادين إلى عائشة؛ أحدهما: عن عروة، والآخر: عن القاسم، وكلاهما عن عائشة، لا يقال: إنَّ رواية عبد الرحمن معلقة؛ لأنَّا نقول: قد بيَّن اتصالها أبو نُعيم والبيهقي من طريق أبي الوليد بالإسنادين، وقالا: أخرجه البخاري عن أبي الوليد بالإسنادين جميعًا، وكذا قال أبو سَعِيْد وغيره في «الأطراف»، وكذا أخرجه النسائي في «الطهارة» عن ابن عبد الأعلى، عن ابن الحارث، عن شعبة به) انتهى.

قلت: فهو موصول، ومن زعم أنَّه معلق؛ فقد أخطأ ووهم؛ فليحفظ.

[حديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم والمرأة من نسائه يغتسلان من إناء واحد]

٢٦٤ - وبالسَّند قال: (حدثنا أبو الوليد) : هو هشام الطيالسي المتقدم، (قال: حدثنا شعبة) : هو ابن الحجاج، (عن عبد الله بن عبد الله)؛ بتكرار (عبد) مع التكبير في الاسمين (بن جَبْر)؛ بفتح الجيم، وسكون الباء الموحدة: (سمعت أنس بن مالك رضي الله عنهما يقول) والجملة محلها نصب على الحال لا مفعول ثاني لـ (سمعت)، كما تقدم مرارًا: (كان النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم والمرأةَُ)؛ بالرفع على العطف، والنصب على المعية، واللام للجنس، فيشمل كل امرأة (من نسائه) رضي الله تعالى عنهن الطاهرات (يغتسلان من إناء واحد) وهذا الإسناد بعينه ذكر في باب (علامة الإيمان) لكن بمتن آخر، وهو ثالث الإسناد لشعبة في هذا المتن، لكن من طريق صحابي آخر، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»، ثم قال: (ومطابقة هذا الحديث والذي قبله وإن لم يذكر فيهما غسل

<<  <   >  >>