للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ومولى ابن عباس رضي الله عنهما، أصله بربري، ثقة، عالم بالتفسير، لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا ثبتت عنه بدعة، واحتج به المؤلف، وأصحاب السنن، وأثنى عليه غير واحد من أهل عصره وكل عصر، والله أعلم، (عن عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما قالت: (إنَّ النَّبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم اعتكف معه) أي: في مسجده النبوي (بعضُ) بالرفع فاعل (اعتكف) (نسائه) قيل: هي سودة بنت زمعة، وقيل: هي رملة أم حبيبة بنت أبي سفيان، وقيل: هي زينب بنت جحش الأسدية أول من مات من أزواج النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بعده، (وهي مستحاضة) : جملة اسمية وقعت حالًا، ووجه التأنيث مع أن لفظة (هي) ترجع إلى لفظ (بعض) اكتساب المضاف التأنيث من المضاف إليه، أو التأنيث باعتبار ما صدق عليه لفظ البعض وهو المراد، وإنما لحق تاء التأنيث في المستحاضة وإن كانت الاستحاضة من خصائص النساء؛ للإشعار بأن الاستحاضة حاصلة لها بالفعل، كذا في «عمدة القاري»، (ترى الدم) : جملة من الفعل والفاعل والمفعول، صفة لازمة للمستحاضة، وهو دليل على أن المراد: أنَّها كانت في حال الاستحاضة، لا أنها من شأنها الاستحاضة؛ يعني: أنها مستحاضة بالفعل لا بالقوة، ويجوز أن تكون الفاء في قوله: (فربما) لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية، وإنما لم يجز أن يقال: المستحيضة على بناء المعلوم؛ لأنَّ المتبع هو الاستعمال وهو لم يستعمل إلا مجهولًا؛ كما في (جُنَّ) من الجنون، وقال الجوهري: (استحيضت المرأة؛ استمر بها الدم بعد أيامها، فهي مستحاضة)، وقال ابن الجوزي: ما عرفنا من أزواج النبي [صلى الله] عليه وسلم من كانت مستحاضة، والظاهر: أنَّها ((١)) عائشة رضي الله عنها؛ إشارة بقولها: (من نسائه)؛ أي: من النساء المتعلقات به، وهي أم حبيبة بنت جحش أخت زينب بنت جحش زوج النبي عليه السلام.

ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: كأن ابن الجوزي ذهل عن الروايتين في هذا الباب؛ أحدهما: (امرأة من أزواجه)، والأخرى: (كان بعض أمهات المؤمنين اعتكفت وهي مستحاضة) على ما يأتي قريبًا، وأيضًا فقد يبعد أن يعتكف مع النبي عليه السلام امرأة من غير زوجاته وإن كان لها به تعلق، وذكر ابن عبد البر أن بنات جحش الثلاث كن مستحاضات؛ زينب أم المؤمنين، وحمنة زوج طلحة، [و] أم حبيبة زوج عبد الرحمن بن عوف، وهي المشهورة منهن بذلك، ويأتي حديثها، وذكروا في المبهمة ثلاثة أقوال التي تقدمت، وأما على ما زعم ابن الجوزي من أن المستحاضة ليست من أزواجه عليه السلام؛ فقد روي: (وكانت زينب بنت أم سَلَمَة استحيضت)، وهي لها تعلق بالنبي عليه السلام؛ لأنَّها ربيبته، ولكن هذا الحديث رواه أبو داود من حكاية زينب على غيرها، وهو الأشبه، فإن زينب كانت صغيرة في زمنه عليه السلام؛ لأنَّه دخل على أمها في السنة الثالثة وزينب ترضع، انتهى كلامه؛ فافهم.

(وضعت الطَّست)؛ بفتح الطاء: وعاء من النحاس يتخذ لتغسيل الأيدي من الطعام، أصله (الطسُّ) بالتضعيف، فأبدلت إحدى السينين تاء؛ للاستفعال، فإذا جمعت أو صغرت؛ رددت إلى أصله؛ فقلت: طساس وطسيس، وفي اللغة البلدية بالشين المعجمة، ويجمع على طشوت، كذا في «عمدة القاري»، (تحتها من الدم) كلمة (من) للتعليل هنا، كذا قاله إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري»، وزعم الكرماني أنها ابتدائية؛ أي: لأجل الدم.

قلت: والأول أظهر، كما لا يخفى.

(وزعم عكرمة) فعل وفاعل، وهو بمعنى: قال، أو لعله ما ثبت صريح القول من عكرمة بذلك، بل علم من القرائن الأحوال منه؛ فلهذا لم يسند القول إليه صريحًا، وهذا إما تعليق من المؤلف، وإما من تتمة قول خالد الحذاء؛ فيكون مسندًا، وهو عطف من جهة المعنى على عكرمة؛ أي: قال خالد: قال عكرمة... ، وزعم عكرمة، كذا قاله الكرماني.

وزعم ابن حجر أنه معطوف على معنى العنعنة؛ أي: حدثني عكرمة بكذا، وزعم كذا، وأبعد من زعم أنه معلَّق.

ورده إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: هذا القائل يريد بذلك: الرد على الكرماني، ولا وجه لرده؛ لأنَّ رد الكلام هو الذي قاله، وتردد هذا الاحتمال لا يدفع بقوله: (وزعم) معطوف على معنى العنعنة، والعطف من أحكام الظواهر في الأصل، انتهى؛ فافهم.

(أن عائشة) : الصديقة رضي الله عنها (رأت ماء) بالمد (العُصْفُر) بضمِّ العين المهملة، والفاء، وسكون الصاد المهملة، وهو زهر القرطم، كذا في «عمدة القاري»، (فقالت) أي: عائشة: (كأنَّ) بتشديد النون، قبلها همزة (هذا) أي: الأصفر (شيء كانت فلانة) الظاهر: أنها هي المرأة التي ذكرت قبل، و (فلانة) غير منصرف؛ كناية عن اسمها، وقال الإمام الزمخشري: فلان وفلانة كناية عن أسماء الأناسي، وإذا كنوا عن أسماء البهائم؛ فقالوا: الفلان والفلانة، كذا في «عمدة القاري»، (تجده)؛ أي: في زمان استحاضتها، قال في «عمدة القاري» : ومما يستنبط من الحديث جواز اعتكاف المستحاضة وجواز صلاتها؛ لأنَّ حالها حال الطاهرات، وإنما تضع الطست؛ لئلا يصيب ثوبها أو المسجد، وأنَّ دم الاستحاضة رقيق كدم الحيض، ويلحق بالمستحاضة ما في معناها؛ كمن به سلس البول، والمذي، والودي، ومن به جرح يسيل في جواز الاعتكاف، والله تعالى أعلم.

[حديث: اعتكفت مع رسول الله امرأة من أزواجه فكانت ترى الدم]

٣١٠ - وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا قُتَيْبَة) بضمِّ القاف، وفتح الفوقية، وسكون التحتية، وفتح الموحدة، هو ابن سَعِيْد -بكسر العين المهملة- (قال: حدثنا يزيد) بفتح التحتية أوله (بن زُريع) بضمِّ الزاي، آخره عين مهملة، (عن خالد) هو الحَذَّاء -بالحاء المهملة- (عن عكرمة) : المفسر المشهور مولى ابن عباس رضي الله عنهما، (عن عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما (قالت: اعتكفتْ) بتاء التأنيث (مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم امرأة) أي: مستحاضة (من أزواجه) الطاهرات، قيل: إنها سودة بنت زمعة، وقيل: رملة أم حبيبة بنت أبي سفيان، وهذا الحديث يرد ما زعمه ابن الجوزي من أن المستحاضة ليست من أزواج النَّبيِّ عليه السلام؛ لأنَّ من البعيد أن يعتكف مع النَّبيِّ الأعظم عليه السلام امرأةٌ من غير زوجاته وإن كان لها تعلق به، كما لا يخفى، (فكانت) أي: المرأة المبهمة (ترى الدم) أحمر في حال الاستحاضة، (و) ترى (الصُفرة) بضمِّ الصاد المهملة، وهو كناية عن الاستحاضة؛ فكأنها تراه تارة أحمر وتارة أصفر، فالأول: دم حقيقي، والثاني: دم حكمي؛ لاستحالته، (والطَّست)؛ بفتح الطاء: الوعاء من النحاس وغيره (تحتها) جملة حالية بالواو، وفي نسخة بدونها وهو جائز، (وهي تصلي) جملة حالية بالواو أيضًا، ففي الحديث جواز الحدث في المسجد بشرط عدم تلويثه، وفيه جواز صلاة المستحاضة، ويلحق بها أصحاب الأعذار مثل من به جرح لا يرقأ، ومن به سلس بول، ومن به استطلاق بطن، ونحوهم، فإنهم يصلون بوضوئهم في الوقت ما شاؤوا من الفرائضوالنوافل، فإذا خرج الوقت؛ بطل وضوءهم؛ فليحفظ.

[حديث: أن بعض أمهات المؤمنين اعتكفت وهي مستحاضة]

٣١١ - وبه قال: (حدثنا مُسَدد) بضمِّ الميم، وفتح السين المهملة، هو ابن مسرهد -بالمهملات- (قال: حدثنا مُعْتَمِر) بضمِّ الميم الأولى، وكسر الثانية، بينهما فوقية مفتوحة، قبلها عين مهملة ساكنة، هو ابن سليمان بن طرخان البصري، (عن خالد) هو الحذاء، (عن عكرمة) مولى ابن عباس، (عن عائشة) الصديقة رضي الله عنها قالت: (إنَّ) بكسر الهمزة (بعض أمهات المؤمنين) الطاهرات، قيل: سودة، وقيل: رملة، كما سبق، وهو يرد على ما زعمه ابن الجوزي أيضًا، وإنَّما سميت أزواج النَّبيِّ الأعظم عليه السلام (أمهات المؤمنين)؛ لحرمة نكاحهن بعده، قال الله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ...}؛ الآية [الأحزاب: ٦]؛ فهن أمهات؛ من حيث تعظيم حقهن، وتحريم نكاحهن على التأبيد، لا في حق النظر إليهن، والخلوة بهن؛ فإنه حرام في حقهن، كما في حق الأجانب، قال الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: ٥٣]، ولا يقال لبناتهن أخوات المؤمنين، ولا لأخواتهن وإخوانهن: هم أخوال المؤمنين وخالاتهم، واختلفوا في أنهن هل كنَّ أمهات النساء المؤمنات؟ قيل: كن أمهات المؤمنين والمؤمنات جميعًا، وقيل: كن أمهات المؤمنين دون النساء، وروى الشعبي عن مسروق: (أن امرأة قالت لعائشة: يا أمه؛ فقالت: لست لك بأمٍّ؛ إنَّما أنا أمُّ رجالكم) فبان بهذا أن معنى هذه الأمومية: تحريم نكاحهن؛ فافهم، والله أعلم، (اعتكفت) أي: مع النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في مسجده النبويِّ (وهي مستحاضة) جملة حالية بالواو، ولم يذكر في هذه الرواية: وضع الطست تحتها؛ لأنَّها كانت آمنة من تلويث المسجد بوضع الخروق في حالها، كما هي عادة النساء، وفي الحديث جواز الاعتكاف للمستحاضة ونحوها مع أمن تلويث المسجد،


(١) في الأصل: (أنه)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>