للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ليس كذلك؛ بل هو أمر غريب عجيب، فإنَّ الاطِّلاع على المغيبات لا يكون إلا لله تعالى أو نبيه الأعظم، حيث أطلعه تعالى على ما سيقع في أمته، وقد نصَّ العلماء أن من ادَّعى علم الغيب يكفر، قال تعالى: {قُل لايَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَاّ اللهُ} [النمل: ٦٥]، فابن حجر قد أثبت للبخاري الاطلاع على الغيب، فهو مردود.

وقوله: (انظر ارتكابه خلاف الظاهر...) إلى آخره؛ ممنوع؛ فإنَّ هذا صريح لفظ الحديث، وله نظائر في كلام الله تعالى ورسوله الأعظم، قال تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: ٦] أي: أردتم القيام لها، وفيه أحاديث، وكلها تدلُّ على هذا التقدير، وهو ليس بخلاف الظاهر، بل المعنى عليه؛ لأنَّه عليه السلام قال: «عرضت عليَّ النار»، ومعلوم أنَّ العارض له إياها جبريل، والعرض إنَّما يكون قبل الصلاة، فكأنَّ قوله: «وأنا أصلي» أي: وأنا أريد الصلاة، على أنه لو كان رآها في نفس صلاته؛ لكان يقول: رأيت النار، فتصريحه بالعرض قرينة دالة على أنَّه لم يكن في الصلاة حينئذ؛ فافهم.

وقوله: (كأنه غفل عما في «التوحيد» ...) إلى آخره؛ ممنوع؛ فإن إمام الشَّارحين لم يغفل عنه، بل هو حفظه قبل أن يصير العجلوني منيًا في ظهر أبيه، ولكنه أعرض عنه؛ لأنَّ معناه لا يدلُّ لما نحن فيه؛ فإنَّ قوله عليه السَّلام: «عرضت عليَّ الجنة، والنار أنفًا في عرض هذا الحائط» معناه، مُثِّلت، وصُوِّرت، ورقِّمت صورتها في عرض هذا الحائط، لأنَّ من المعلوم أن وجود الجنة والنار في حائط ما مستحيل، فالمراد لازم ذلك، وهو التمثيل والصورة، وعلى هذا؛ فلا دلالة فيه، وكذلك يجوز أن يكون المعنى في حديث ابن عبَّاس (أريت النار) أي: صفتها وصورتها، لا هي حقيقةً، بل مجازًا؛ فافهم.

وقول ابن حجر: (ولا فرق بين القريب من المصلي والبعيد...) إلى آخره: كلام فاسد؛ فإن الفرق بينهما ظاهر لمن له أدنى تأمل، فإنَّ النار في تحت الأرض السابعة السفلى، فكونه رآها أمامه بعيد عن النظر؛ لأنَّ الظاهر يردُّه، بل إنه رآها تحت قدميه، ويدل عليه أنه تأخَّر عن مكانه، وعلى كلٍّ؛ فالرؤية حقيقة مستحيلة، بل إنه رأى صورتها وصفتها، كما علمت، والله أعلم.

وقال ابن التين: (لا حجة في الحديث على الترجمة، لأنَّه عليه السَّلام لم يفعل ذلك اختيارًا، وإنمَّا عرض عليه ذلك للمعنى الذي أراه الله تعالى من تنبيهه للعباد).

واعترضه ابن حجر فقال: (وتُعقب بأن الاختيار وعدمه في ذلك سواء منه).

وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (لا نُسلِّم التسوية؛ فإن الكراهة تتأكد عند الاختيار، وأما عند عدمه، فلا كراهة؛ لعدم العلة الموجبة للكراهة؛ وهي التشبُّه بعبدة النار)

واعترضه العجلوني، بأنَّه أخذه من قول ابن حجر، وهو لا يرد؛ لأنَّ مناط التسوية في الحقيقة هو التعليل بقوله؛ لأنَّه عليه السَّلام لا يقرُّ على باطل، وقد حذفه غفلة.

قلت: لم يأخذه إمام الشَّارحين من قول ابن حجر، ولم يغفل عنه، ولم يحذفه، وإنمَّا أعرض عنه؛ لمخالفته الظاهر، فإنَّ هذا الجواب لم يقله ابن حجر، وإنما قاله غيره، فنسبه لنفسه، وعلى كلٍّ؛ فهو وارد عليه، فإن قوله (لأن مناط التسوية...) إلى آخره؛ ممنوع؛ فإنَّه عليه السَّلام قد عُرضت عليه، وهو كاره لها بدليل: أنه عليه السَّلام قد تأخر عنها حين رؤيتها، فلو كان غير كاره لها؛ لما تأخر عنها، وبهذا كانت الكراهة متأكدة عند الاختيار، ولا كراهة عند عدمه، وما ذكره من علَّة التسوية؛ من أنه لا يقر على باطل إنَّما هو فيما يفعله بنفسه، فإن كان باطلًا؛ لا يقرُّ عليه، وإن كان حقًّا؛ أقرَّ عليه، وههنا ليس كذلك، فإنَّه عليه السَّلام لم يعرض هو بنفسه النار على نفسه، بل قد عرضت له، وهو كاره من رؤيتها على أنَّ هذا في حقه عليه السَّلام، أمَّا غيره؛ فلو فعل المعاصي كلها؛ أقرَّ عليه، لأنَّه لا وحي بعده عليه السَّلام، فتحصل بذلك عدم التسوية المذكورة؛ فافهم، وكم للعجلوني من تعصُّب بارد، وكثرة كلام فاسد، والله تعالى يحفظنا من التعصب والعناد، والله ولي السداد.

هذا وقال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: مشروعية صلاة الكسوف، وهي سنة عند الجمهور، وفيه: أنَّ النار مخلوقة اليوم؛ إذ لا قائل بالفرق، خلافًا لمن أنكر ذلك من المعتزلة، وفيه: من معجزاته عليه السَّلام رؤيته النار رأي (١) عين حيث كشف الله عنه الحجب؛ فرآها معاينة، كما كشف له عن المسجد الأقصى، وفيه: ما بوَّب له البخاري من عدم كراهة الصلاة إذا كان بين يدي المصلي نار ولم يقصد به إلا وجه الله تعالى) انتهى، والله أعلم.

(٥٢) [باب كراهية الصلاة في المقابر]

هذا (باب كراهية) وفي بعض الأصول: (كراهة) (الصلاة) أي: الفريضة وغيرها (في المقابر) جمع (مقبُرة)؛ بضمِّ الموحدة، هو المسموع، والقياس فتحها، وفي «شرح الهادي» أن ما جاء على (مفعُلة)؛ بالضم: يراد بها: أنها موضوعة لذلك ومتخذة له، فإذا قالوا (المقبَرة) بالفتح؛ أرادوا: مكان الفعل، وإذا ضمُّوا؛ أرادوا: البقعة التي من شأنها أن يقبر بها، وكذلك المشرُفة والمشرُبة، والتأنيث في هذه الأسماء لإرادة البقعة أو للمبالغة؛ ليدل على أنَّ لها ثباتًا في أنفسها، والكراهة والكراهية كلاهما مصدران، تقول: كرهت الشيء أكرهه كراهة وكراهية، فهو شيء كريه ومكروه.

وبين البابين تناسب من حيث الضديَّة، كذا قرَّره إمام الشَّارحين.

قلت: يعني أنَّ الباب السابق ترجم له المؤلف، واستدل عليه بعدم كراهة الصلاة، وههنا أثبت الكراهة، فالتناسب من حيث الضد، ويقال: كلٌ (٢) منهما في حكم من أحكام الصلاة، والمكروه ضد المحبوب، وهو يشمل الكراهة التحريمية والتنزيهية، ولم يبيِّن المؤلف ما مراده منهما، لكن إطلاق الكراهة يفيد: أنها للتحريم، كما سيأتي بيانه؛ فافهم.

[حديث: اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورًا]

٤٣٢ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا مُسدد) : هو ابن مُسرهَد -بضمِّ أولهما- البصري (قال: حدثنا يحيى) هو ابن سعيد القطان البصري، (عن عُبيد الله) بضمِّ العين المهملة؛ مصغرًا، زاد الأصيلي (بن عمر) : هو العمري (قال: أخبرني) بالإفراد (نافع) هو مولى ابن عمر


(١) في الأصل: (أي)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (كلًّا)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>