للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

المدني، (عن) عبد الله (ابن عمر) هو ابن الخطاب القرشي، العدوي، رضي الله عنهما، (عن النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) أنَّه (قال: اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم)؛ أي: بعضها، قال الكرماني: وهو مفعول الجَعْل، وهو متعدٍّ إلى واحد؛ كقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: ١] وهو بخلافها بمعنى: التصيير، فإنَّها متعدية إلى اثنين؛ كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} [فاطر: ٣٩] انتهى.

قلت: ولا مانع من جعلها ههنا بمعنى: المتعدية لاثنين؛ الأول (في بيوتكم)، والثاني: (من صلاتكم)؛ لأنَّها اسم بمعنى: بعض؛ فافهم.

قال إمام الشَّارحين: (ومعناه: صلُّوا في بيوتكم، ولا تجعلوها كالقبور مهجورة من الصلاة؛ والمراد بها: صلاة النافلة؛ أي: صلُّوا النوافل في بيوتكم) انتهى.

قلت: يعني: أنَّ هذا البعض المأمور بجعله في البيوت هو النافلة التي لم تشرع في المسجد، بخلاف نحو التراويح، وركعتي الطواف، ويدلُّ عليه حديث «الصحيحين» : «صلُّوا أيها الناس في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة».

وقال القاضي عياض: (قيل: هذا في الفريضة، ومعناه: بعض فرائضكم في بيوتكم؛ ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد؛ من نسوة، وعبيد، ومريض، ونحوهم، قال: وقال الجمهور: بل هو في النافلة؛ لإخفائها).

قال إمام الشَّارحين: (فعلى التقدير الأول: تكون «من» في قوله «من صلاتكم» : زائدة، ويكون التقدير: اجعلوا صلاتكم في بيوتكم، ويكون المراد منها: النوافل، وعلى التقدير الثاني: تكون «من» للتبعيض مطلقًا، ويكون المراد من الصلاة: مطلق الصلاة، ويكون المعنى: اجعلوا بعض صلاتكم -وهو النفل من الصلاة المطلقة- في بيوتكم، والصلاة المطلقة تشمل النفل والفرض؛ على أنَّ الأصح: منع مجيء «من» زائدة في الكلام المثبت، ولا يجوز حمل الكلام على الفريضة، لا كلِّها ولا بعضها؛ لأنَّ الحث على النفل جاء في البيوت، وذلك لكونه أبعد من الرياء، وأصون من المحبطات، وليتبرك به البيت، وتنزل الرحمة فيه والملائكة، وينفر الشيطان منه، على ما دلَّ عليه حديث الطبراني: «أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة») انتهى كلامه

قال القرطبي: (من) للتبعيض، والمراد: النوافل، بدليل: رواية مسلم عن جابر مرفوعًا «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده؛ فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته».

واعترضه ابن حجر، فزعم أنه ليس في الحديث ما ينفي احتمال الفريضة.

وردَّه العجلوني؛ بأنَّه في غاية البعد مع قوله: «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده»؛ فإن المراد بها: الفرائض قطعًا، ولهذا قال النووي: لا يجوز حمله على الفريضة، بل المراد: الحث على جعل النفل في البيت، انتهى.

قلت: هذا عجيب من العجلوني حيث ردَّ على ابن حجر، ولا عجب؛ فإنَّ الطبع يَمُجُّ ما قاله؛ فافهم، والله أعلم.

(ولا تتخذوها) أي: بيوتكم (قبورًا) أي: كالقبور مهجورة من الصلاة وقراءة القرآن، وهذا من التشبيه البليغ البديع؛ بحذف حرف التشبيه؛ للمبالغة حيث شبَّه البيت الذي لا يصلَّى ولا يقرأ فيه بالقبر الذي لا يتمكن الميت من العبادة فيه، كذا قاله إمام الشَّارحين.

قلت: ويدلُّ عليه ما في رواية مسلم: «مَثَلُ البيت الذي يذكر الله فيه، والبيت الذي لا يذكر الله فيه كمثل الحي والميت»، وكذلك ما رواه الطبراني من حديث عبد الرحمن ابن سابط عن أبيه يرفعه: «نوِّروا بيوتكم بذكر الله، وأكثروا فيها تلاوة القرآن، ولا تتَّخذوها قبورًا، كما اتخذها اليهود والنصارى؛ فإن البيت الذي يقرأ فيه القرآن يتَّسع على أهله، ويكثُر خيره، وتَحضُره الملائكة وتُدْحض عنه الشياطين، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن يَضيق على أهله، ويقلُّ خيره، وتنفر منه الملائكة، وتَحْضر فيه الشياطين» انتهى.

قلت: والصلاة تشتمل على قراءة القرآن، وذكر، ونحوها؛ فهي أولى بالمقصود، وإنَّما تَحضر الملائكة؛ لأجل سماعها تلاوة القرآن؛ لأنَّها لا تحفظه، بل تسمعه من بني آدم؛ وفيه حديث.

وقال الخطابي: (يحتمل أن يكون معناه: لا تجعلوا بيوتكم أوطانًا للنَّوم لا تُصلون فيها، فإن النوم أخو الموت، وأمَّا من أوَّله على النهي عن دفن الموتى في البيوت؛ فليس بشيء، فقد دُفِن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في بيته الذي كان يسكنه أيام حياته) انتهى.

واعترضه ابن حجر، فزعم أنَّ ماادُّعي أنَّه تأويل هو ظاهر الحديث، ولا سيما أن جعل النهي حكمًا منفصلًا عن الأمر، انتهى.

قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ ظاهر الحديث لا يدلُّ على ما ذكره، فإنَّ الحديث يشتمل على جملتين متعلقتين ببعضهما بعضًا، ولا يجوز إفراد أحدهما عن الأخرى، والثانية دالة: على عدم صلاة المرء في بيته، فقوله: (ولا سيما...) إلخ؛ غير صحيح؛ لأنَّ هذا الجعل لا يجوز، ويلزم عليه تغيير مراده عليه السَّلام من عدم صلاة المرء في بيته؛ للقرينة الدالة على ذلك، وهي قوله (اجعلوا...) إلى آخره؛ فافهم.

واعترضه أيضًا الكرماني فقال: فيه نظر، ودفن رسول الله عليه السَّلام في بيته لعلَّه كان من خصائصه سيما وقد روي: «الأنبياء يُدفنون حيث يموتون» انتهى.

قال إمام الشَّارحين: هذه الرواية رواها ابن ماجه من حديث ابن عبَّاس عن أبي بكر الصديق مرفوعًا: «ما قُبض نبي إلا دُفن حيث يُقبض»، وفي إسناده حسين بن عبد الله الهاشمي وهو

<<  <   >  >>