للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

(وعن ابن شهاب) هو محمَّد بن مسلم الزهري المدني، (عن سعيد بن المسيَّب)؛ بفتح التحتية المشددة وبكسرها، وكان يقول: (بكسر الياء، سيَّب الله من يسيب أبي)، توفي بالمدينة سنة إحدى ومئة، وهو ابن حزن القرشي المخزومي، المتفق على أنَّ مرسلاته أصح المراسيل، (قال) أي: سعيد: (كان عمر) هو ابن الخطاب القرشي، أحد الخلفاء الراشدين (وعثمان) هو ابن عفان، ثالث الخلفاء المهديين، الملقب بذي النورين رضي الله عنهما (يفعلان ذلك)؛ أي: الاستلقاء المذكور، والوضع في المسجد، وإفادة (كان) الدوام والاستمرار غالبًا، وهو بواو العطف معطوف على الإسناد المذكور، ولهذا قال صاحب «التوضيح» : (ساقه البخاري بالسند الأول، وقد صرح به أبو داود، وزاد أبو مسعود فيما حكاه الحميدي في «جمعه»، فقال: «إنَّ أبا بكر وعمر وعثمان كانوا يفعلون ذلك»، وقد أخرج البرقاني هذا الفعل من حديث إبراهيم بن سعد عن الزهري متصلًا بالحديث الأولولم يذكر سعيد بن المسيَّب، وسعيد لم يصح سماعه من عمر، وأدرك عثمان، ولا يحفظ له عنه رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) انتهى.

وقال ابن حجر: («وعن ابن شهاب» : معطوف على الإسناد الأول، وقد صرح بذلك أبو داود في روايته عن القعنبي، وهو كذلك في «الموطأ»، وغفل عن ذلك من زعم أنَّه معلق) انتهى.

وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (يريد به الكرماني؛ حيث قال: يحتمل أن يكون هذا معلقًا وأن يكون داخلًا تحت الإسناد السَّابق، فالكرماني ما جزم بأنَّه معلق، بل قال بالاحتمال، وهو صحيح بحسب الظَّاهر، وتصريح أبي داود بذلك في كتابه لا يدل على أنَّ هذا داخلًا في الإسناد المذكور ههنا قطعًا، ورواية أبي داود هكذا: «حدثنا القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب: أنَّ عمر وعثمان كانا يفعلان ذلك»؛ أي: من الاستلقاء والوضع) انتهى.

وأجاب ابن حجر في «الانتقاض» : (بأنَّ تصريح مثل مَنْ ذَكَرَ بذلك يرجح الوصل، ويُصيِّر احتمال التَّعليق كالعدم) انتهى.

قلت: هو غير ظاهر، فإنَّ تصريح أبي داود يحتمل التَّعليق والوصل، بل الأول أظهر؛ لأنَّ ابن المسيب لم يصح سماعه من عمر، ولا من عثمان، ولا يحفظ له رواية، كما قدمناه عن صاحب «التوضيح»؛ فافهم.

ونقل العجلوني عن النَّووي: (أنَّ ابن المسيب ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، وقيل: لأربع سنين، ورأى عمر وسمع منه، ومن عثمان، وعلي، وغيرهم، ثم نقل عن أحمد: أنَّه رأى عمر وسمع منه)، ثم قال العجلوني: (وبه تعلم أنَّ ما ذكره ابن الملقن وإن تبعه عليه في «العمدة»؛ ليس بعمدة) انتهى.

قلت: أراد بهذا الاعتراض على إمام الشَّارحين وعلى صاحب «التوضيح»، واعتراضه مردود عليه؛ لأنَّ ابن خلكان قال في ترجمته: (سمع سعد بن أبي وقاص، وأبا هريرة، وغيرهما، وأكثر روايته المسند عن أبي هريرة، وكانت ولادته لسنتين مضتا من خلافة عمر) انتهى، ولم يذكر أنَّه سمع من عمر، وعثمان، وعلي، كما رأيت على أنَّ كونه ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر يرد كونه سمع منه؛ لأنَّ صحة سماع الصبي مشروط بأن يكون ابن خمس سنين، وليس ابن المسيب سنه وقتئذٍ خمسًا، كما لا يخفى، وفيه خلاف؛ فابن العربي يشترط فيه بلوغ خمس، وابن العجمي بلوغ سبع، وهو قول الجمهور، وقال جماعة: بلوغ خمس مطلقًا، قاله القاضي عياض، وقدمناه في باب (متى يصح سماع الصغير)؛ فاعرفه.

قال إمام الشَّارحين: (اختلف جماعة من الصَّحابة والتَّابعين وغيرهم في هذا الباب؛ فذهب محمَّد بن سيرين ومجاهد وطاووس وإبراهيم النخعي إلى أنَّه لا يكره وضع إحدى الرِّجلين على الأخرى، وروي ذلك عن ابن عبَّاس وكعب بن عجرة.

وخالفهم في ذلك آخرون؛ فقالوا: لا بأس بذلك؛ وهم: الحسن البصري، والشَّعبي، وابن المسيب، وأبو مجلز، ومحمَّد ابن الحنفية، ويروى ذلك عن أسامة بن زيد، وابن عمر، وأبيه عمر بن الخطاب، وعثمان، وابن مسعود، وأنس رضي الله عنهم.

وقال ابن أبي شيبة في «مصنفه» : «حدثنا وكيع، عن عبد العزيز الماجشون، عن الزهري، عن ابن المسيب: أنَّ عمر وعثمان كانا يفعلانه».

وروي عن عبد الله بن مالك عن أبيه قال: «دخل على عمر ورآه مستلقيًا واضعًا إحدى رجليه على الأخرى».

وروي عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث: «أنه رأى ابن عمر يضطجع فيضع إحدى رجليه على الأخرى».

وحدثنا وكيع، عن أسامة، عن نافع: «كان ابن عمر يستلقي على قفاه، ويضع إحدى رجليه على الأخرى، ولا يرى بذلك بأسًا، ويفعله وهو جالس لا يرى بذلك بأسًا».

وحدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن عمه قال: «رأيت ابن مسعود رضي الله عنه مستلقيًا واضعًا إحدى رجليه على الأخرى، وهو يقول: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس: ٨٥]».

وحدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن عمران -يعني: ابن مسلم- قال: «رأيت أنسًا رضي الله عنه واضعًا إحدى رجليه على الأخرى») انتهى.

والحاصل: أنَّ الاستلقاء في المسجد ومد الرِّجل فيه؛ غير مكروه، إلا أنَّه يكره مد الرِّجل نحو الكعبة، وهذا مذهب الإمام الأعظم رأس المجتهدين، وهو قول الجمهور من الصَّحابة والتَّابعين، والله أعلم.

(٨٦) [باب المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس]

هذا (باب) بيان حكم بناء (المسجد)؛ أي: الجامع سواء كان كبيرًا أو صغيرًا (يكون) أي: بناؤه (في الطريق) أي: طريق الناس (من غير ضرر بالناس) ولأبي ذر: (للناس)، وفي بعض الأصول زيادة: (فيه)، والمراد بالحكم: الجواز، لكن بشرط ألَّا يكون فيه ضرر لهم.

ولما كان بناء المسجد على أنواع؛ نوع منه يجوز بالإجماع؛ وهو أن يبنيه في ملكه، ونوع يجوز ذلك بشرط ألَّا يضر بأحد؛ وذلك في المباحات، وقد شذ بعضهم في ذلك فمنعه، وأراد البخاري بهذا الباب الرد على هؤلاء، واحتج على ذلك بقصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وعلم بذلك النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وأقره على ذلك، ولم ينكر عليه، وما رواه عبد الرزاق عن علي وابن عمر من المنع؛ فسنده ضعيف لا يحتج به، أو محمول على وجود الضرر، والصَّحيح ما نقل عن أبي بكر رضي الله عنه، أفاده إمام الشَّارحين.

(وبه)؛ أي: بجواز بناء المسجد في الطريق بحيث لا يحصل ضرر للناس (قال الحسن) هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصري التَّابعي، (وأيِّوب) هو السختياني البصري، (ومالك) هو ابن أنس الأصبحي المدني، وبه قال الجمهور.

وفائدة التصريح بهؤلاء مع أنَّه جائز عند الجمهور؛ لأنَّه لما وَرَد عنهم هذا الحكم صريحًا؛ صرَّح المؤلف بأسمائهم، قاله الشَّارح.

وقال صاحب «التوضيح» : (وأجاز مالك بناء المسجد بفناء الدار إذا كان لا يضر بالساكنين؛ لأنَّ نفعه كالاستطراق، وإليه ذهب البخاري كما في ترجمته، قال ابن شعبان: وينبغي تجنب الصلاة في المساجد المبنية حيث لا يجوز بناؤها

<<  <   >  >>