للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

هو محمَّد بن مسلم الزهري المدني، (عن عَبَّاد) بفتح العين المهملة، وتشديد الموحَّدة (بن تميم) هو ابن يزيد الأنصاري المدني، الصَّحابي في قول الذهبي، والتَّابعي في قول غيره، (عن عمه) هو عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري المازني المقتول بالحَرَّة في ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وعباد وعمه تقدما في باب (لا يتوضأ من الشك) : (أنَّه رأى)؛ أي: أبصر، فلهذا اكتفي لها بمفعول واحد (رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقوله: (مستلقيًا) : حال من الرسول الأعظم؛ أي: متكئًا على ظهره (في المسجد)؛ أي: النَّبوي، فاللَّام فيه للعهد، وقوله: (واضعًا [إحدى رجليه على الأخرى] (١)) : حال من النَّبي الأعظم أيضًا، فهما حالان مترادفتان، ويجوز أن يكون قوله: (واضعًا) : حال من الضمير الذي في (مستلقيًا)، فعلى هذا يكون الحالان متداخلتين، كذا قرره إمامنا الشَّارح.

ومطابقته للحديث ظاهرة، وقال الخطابي: (فيه بيان جواز هذا الفعل، والنَّهي الوارد عن ذلك منسوخ بهذا الحديث)، قال إمام الشَّارحين: (قلت: النَّهي ما روى جابر بن عبد الله: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلقٍ»، وأجاب الخطابي عن النَّهي بجواب آخر: وهو أنَّ علة النَّهي عنه أن تبدو عورة الفاعل لذلك، فإنَّ الإزار ربما ضاق، فإذا شال لابسه إحدى رجليه فوق الأخرى؛ بقيت هناك فُرجة تظهر منها عورته، وممن جزم بأنه منسوخ ابن بطال) انتهى كلام إمام الشَّارحين.

قال ابن حجر: (الجواب الثاني أولى من ادعاء النَّسخ؛ لأنَّه لا يثبت بالاحتمال، وممن جزم به: البيهقي، والبغوي، وغيرهما) انتهى.

وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (القائل بالنَّسخ ما ادعى أنَّ النَّسخ بالاحتمال، وإنَّما جزم به، فكيف يدعي الأولوية بالاحتمال، ويقوي دعوى النَّسخ ما روي عن عمر وعثمان: أنَّهما كانا يفعلان ذلك على ما سيأتي، ويقال: يحتمل أنَّ الشَّارع فعل ذلك لضرورة أو كان ذلك بغير محضر جماعة، فجلوسه عليه السَّلام في المجامع كان على خلاف ذلك من التربع، والاحتباء، وجلسات الوقار، والتواضع) انتهى.

واعترضه العجلوني بأنَّ الخطابي لما ردد في الجواب بين النَّسخ وبين الحمل على إذا خشي بدوَّ عورته كان بصورة الاحتمال.

وعبارة ابن بطال: (وكأنَّ البخاري ذهب إلى أنَّ حديث جابر منسوخ بهذا الحديث، واستدل على نسخه بحديث الخليفتين بعده، ولا يجوز أن يخفى عليهما الناسخ والمنسوخ) انتهى.

واعترضه العجلوني بأنَّ حديث الخليفتين بعده لا يدل على خصوص النَّسخ؛ لاحتمال أن يكون النَّهي عندهما محمولًا على ما إذا خشي بدوَّ العورة، فلا نسخ، انتهى.

وأجاب ابن حجر في «الانتقاض» : بأنَّه لا حرج في دعوى الأولوية بالاحتمال، وأمَّا النَّسخ؛ فلا يثبت إلا بمعرفة التاريخ أو بتنصيص الشَّارع، انتهى.

قلت: كلام العجلوني وابن حجر كلاهما فاسد الاعتبار.

أمَّا قوله: (بأن الخطابي لما ردد في الجواب...) إلخ؛ فيرده أنَّه ذكرهما بصيغة الجزم، ولم يذكرهما بصيغة الاحتمال، فليس في كلامه ما يدل على أنَّه قائل بالاحتمال ولو صورة، على أنَّ المعتبر للفظ لا للصورة؛ فافهم، وعبارة ابن بطال صحيحة لا يرد عليها ما ذكره، فإنَّ حديث الخليفتين بعده يدل على النَّسخ قطعًا؛ لأنَّهما لا يفعلان شيئًا مخالفًا لسنته عليه السَّلام؛ لأنَّهما أعلم بحاله، وعَلِما أنَّ النَّهي كان في ابتداء الأمر، ثم إنَّه نسخ بفعله، كما لا يخفى.

وما ذكره من الحمل على ما إذا خشي عندهما؛ ممنوع؛ لأنَّهما لا يفعلان شيئًا من تلقاء أنفسهما، بل حتى يعلما ويشاهدا ذلك من فعله عليه السَّلام، واستلقاؤه عليه السَّلام لم يخف عليهما قطعًا؛ لأنَّهما دائمًا معه عليه السَّلام مترقبين لأفعاله، ومن البعيد كونه عليه السَّلام مستلقيًا في المسجد ولم يره خليفته الفاروق وذو النورينولم يعلما به، فنسبة عدم علم الناسخ والمنسوخ لهما جرأة عظيمة يجب الإعراض عنها، فلا تغتر بما زعمه.

وأمَّا قول ابن حجر: (لا حرج في دعوى الأولوية بالاحتمال)؛ ممنوع؛ لأنَّه قد ذكر الأولوية بغير دليل، فالحرج ظاهر؛ لأنَّ القول بغير مستند غير مقبول، لا سيما في الأحكام، فكيف يقول: لا حرج؟! وما هذا إلا القول بالرأي بعينه يجب الإعراض عنه.

وقوله: (وأمَّا النَّسخ...) إلخ؛ لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم أنَّ عمر وعثمان رضي الله عنهماأعلم الناس بمعرفة التاريخ وبأقوال الشَّارع وأفعاله، ولا ينكر ذلك إلا كل معاند، وفعلهما دليل على كون فعله عليه السَّلام كان ناسخًا للنَّهي، ولا يتصور أن يفعلا شيئًا منهيًّا عنه من الشَّارع؛ لأنَّهما أشد اتباعًا للسنة، فهذا أقوى دليل على النَّسخ، كما لا يخفى، على أنَّ ما فعله الخليفتان كان بمحضر الصَّحابة، ولم ينكر عليهما أحد منهم، فصار ذلك منهم إجماعًا على نسخه، كما لا يخفى؛ فافهم.

فانظر جرأة ابن حجر والعجلوني على خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما زعما فيهما؛ فاجتنبه.

وقال المازري: إنَّ النَّهي وقع في غير الكتب الصِّحاح؛ كـ «أبي داود»، لكنه عام؛ لأنَّه قول، والاستلقاء فعل، فهو خاص قد يدعى قصره عليه لولا ما صح عن الخليفتين، فصار تعارضًا (٢) بين الحديثين، ثم أجاب بنحو ما ذكره الخطابي.

واعترضه ابن حجر بأنَّ حديث النَّهي في «البخاري» في (اللباس)، وبأنَّ الخصائص لا تثبت بالاحتمال، والظَّاهر أنَّ فعله عليه السَّلام؛ لبيان الجواز، أو كان في وقت الاستراحات لا في مجتمع الناس؛ لِمَا عُرِفَ من عادته في الجلوس بينهم بالوقار التام؛ كالتربع والاحتباء، انتهى.

قلت: واعتراضه مردود عليه، وحفظ شيئًا وغاب عنه أشياء، فإنَّ حديث النَّهي وإن كان ذكره البخاري في (اللباس)، لكنه منسوخ بفعل الخليفتين، فلم يُلتَفت إليه، وبقي الفعل، فليس ثمة تعارض، وإلى هذا أشار المازري بقوله: (ولولا ما صح عن الخليفتين)، ثم أجاب: بأنَّ النَّهي منسوخ بفعلهما.

وقوله: (وبأنَّ الخصائص...) إلخ؛ ممنوع؛ لأنَّ المازري بناها على فرض ثبوت عدم فعل الخليفتين ذلك، لا مع ثبوت فعلهما، ومعنى كلامه: أنَّه إذا ثبت فعلهما ذلك؛ فيكون دليلًا على النَّسخ، فليس للنَّهي محل لذلك، على أنَّه لو لم يصح عنهما؛ لكان قوله بالخصوصية مقبولًا؛ فانظر كيف فهم هذا الكلام؟

وقوله: (والظَّاهر...) إلخ؛ هذا ليس بظاهر؛ لأنَّ الشَّارع وخلفاءه الذين أُمرنا باتباعهم قد فعلوا ذلك، فلا يكون فعلهم مبنيًّا على بيان الجواز؛ لأنَّه يقال فيما إذا تعارض دليلان، وليس هنا كذلك؛ فافهم.

وقوله: (أو كان في وقت...) إلخ؛ ممنوع؛ لأنَّ فعله عليه السَّلام لا يدل على هذا، فإنَّ الحديث يرده، ومحل الاستراحة المنزل لا المسجد، وليس في الحديث إشارة إلى هذا، وإنَّما كان عليه السَّلام يفعل ذلك في مجتمع الناس؛ بدليل كونه في المسجد وهو لا يخلو عن الناس، وكفى بذلك رؤيته لعمر بن الخطاب وعثمان رضي الله عنهما حتى فعلا كفعله؛ لأنَّهما أشد اتباعًا له، كما لا يخفى، وعادته التربع إذا كان في مجمع مذاكرة العلم وحوائج الناس لا مطلقًا، كما زعمه؛ فافهم.

وقال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث الاتكاء في المسجد، والاضطجاع فيه، وكذا أنواع الاستراحات غير الانبطاح (٣) -وهو الوقوع على الوجه-، فإن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه، وقال: «إنَّها ضجعة يبغضها الله تعالى») انتهى؛ فليحفظ.


(١) ما بين معقوفين مثبتٌ من «الصحيح».
(٢) في الأصل: (تعارض)، وليس بصحيح.
(٣) في الأصل: (الانطباع)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>