للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

قلت: وهذا هو الظَّاهر؛ لأنَّه لم يتقدم نهي عن ذلك أصلًا، ولهذا قال العجلوني: وما ذكره ابن حجر؛ فيه وقفة؛ أي: من حيث إنَّ الظَّاهر أنَّ ذلك كان منه بطريق الاجتهاد والرأي، لا من طريق السَّماع من النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه أنَّه لو كان بطريق السَّماع؛ لكان يقول: سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم، أو أَمَرَ، أو نَهَى، فحيث لم يذكر شيئًا من ذلك؛ عُلِم أنَّه بطريق الاجتهاد كما لا يخفى؛ فافهم.

وفي هذا الحديث دلالة على منع رفع الصوت في المساجد، وأنَّه غير جائز؛ لأنَّه بني للصلاة وتلاوة القرآن، وهي تكون بالسَّكينة، والوقار، والتدبر لمعاني القرآن، ورفع الصوت ينافي ذلك، ويشغل المصلين، ويلهيهم؛ فهو لا يجوز.

وقال ابن بطال: (قال بعضهم: أمَّا إنكار عمر رضي الله عنه؛ فلأنَّهما رفعا أصواتهما فيما لا يحتاجان إليه من اللغط الذي لا يجوز في المسجد، وإنَّما سألهما من أين أنتما؟ ليعلم أنَّهما إن كانا من أهل البلد، وعلما أنَّ رفع الصوت في المسجد باللغط فيه غير جائز؛ زجرهما وأدبهما، فلما أخبراه أنَّهما من غير البلد؛ عذرهما بالجهل) انتهى.

وقال إمام الشَّارحين: (ومطابقته للتَّرجمة في أحد احتماليها وهو المنع، وفيه: جواز تأديب الإمام من يرفع صوته في المسجد باللغط، ونحو ذلك) انتهى.

[حديث: أن كعب بن مالك أخبره أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا له عليه]

٤٧١ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا أحمد) هو ابن صالح المصري، كما وقع في رواية ابن شبويه عن الفربري، وجزم به ابن السكن والحاكم في «المدخل»، وقال الكلاباذي: (قال ابن منده الأصفهاني: كل ما قال البخاري في «الجامع» : أحمد عن ابن وهب؛ فهو ابن صالح المصري، وقيل: إنَّه أحمد بن عيسى التستري، ولا يخلو أن يكون واحدًا منهما؛ كذا قرره إمامنا الشَّارح (قال: حدثنا) ولأبي الوقت وابن عساكر: (أخبرنا) (ابن وهب) هو عبد الله بن وهب المصري (قال: أخبرني) بالإفراد (يونس بن يزيد) هو الأيلي، (عن ابن شهاب) هو محمَّد بن مسلم الزهري المدني التَّابعي (قال: حدثني) بالإفراد (عبد الله بن كعب بن مالك) هوالأنصاري: (أَنَّ) -بفتح الهمزة- أباه (كعب بن مالك) هوالأنصاري السلمي المدني الشاعر، أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم، وأنزل فيهم: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: ١١٨]، مات بالمدينة سنة خمسين، وكان ابنه عبد الله قائده حين عَمِي رضي الله عنهما (أخبره) أي: أخبر كعبُ ابنَه عبد الله (أنَّه) أي: أنَّ كعبًا (تقاضى) أي: طالب (كعب بن أبي حدرد) بمهملات: هو عبد الله بن سلامة، كما صرح به المؤلف في إحدى رواياته، وهو صحابي على الأصح، و (تقاضى) على وزن (تفاعل)، وأصله لمشاركة أمرين فصاعدًا؛ نحو: تشاركا، قال الكرماني: (هو متعد إلى مفعول واحد، وهو الابن)، قال إمام الشَّارحين: (إذا كان «تفاعل» من «فاعل» المتعدي إلى مفعول واحد؛ كضارب؛ لم يتعد، وإن كان من المتعدي إلى مفعولين؛ كجاذبته الثوب؛ يتعدى إلى واحد) انتهى، (دينًا) منصوب بنزع الخافض؛ أي: بدين، قاله الكرماني، وإنما وجه بهذا؛ لأنَّا قلنا: إنَّ (تفاعل) إذا كان من المتعدي إلى مفعولين؛ لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، قاله الشَّارح، (له عليه) ولأبوي ذر والوقت: (كان له عليه)؛ أي: كان الدين لكعب بن مالك على كعب بن أبي حدرد، والجملة محلها نصب صفة (دينًا) (في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: في زمن حياته (في المسجد)؛ أي: النَّبوي، فاللَّام فيه للعهد، وهو متعلق بـ (تقاضى)، (فارتفعت) أي: علت (أصواتهما) من قبيل قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: ٤]، ويجوز اعتبار الجمع في صوتيهما باعتبار أنواع الصوت، قاله الشَّارح، (حتى سمعها)؛ أي: أصواتهما، وللأصيلي: (حتى سمعهما)؛ أي: كعبًا وابن أبي حدرد باعتبار صوتيهما (رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقوله: (وهو في بيته) جملة اسمية بالواو محلها النصب على الحال من الرسول الأعظم عليه السَّلام.

قال القسطلاني: (ولم ينكر عليهما رفع أصواتهما في المسجد؛ لأنَّ ذلك لطلب حق ولا بد فيه من رفع الصوت كما لا يخفى) انتهى.

قلت: إنَّما لم ينكر عليهما ذلك؛ لأنَّهما في حال المخاصمة؛ فخشي أن يقذف الشَّيطان في قلوبهما شيئًا، وطلب الحق لا يلزم أن يكون بعنف ورفع صوت؛ لأنَّه يجوز أن يكون بسهولة وسكينة، لا سيما في المسجد بحضرة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، كما دل عليه أحاديث يأتي بيانها، والمطلق محمول على المقيد، والحاظر مقدم على المبيح؛ فافهم.

(فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم) لعل المراد بـ (فخرج) (١) : أراد الخروج إليهما ليظهر جعل قوله: (حتى كشف سجف حجرته) -أي: ستر باب بيته- غاية له، ويحتمل تعلقه بقوله: (فارتفعت أصواتهما)، وقد سبق أنَّه عليه السَّلام مر بهما، فيكون المعنى: أنَّه عليه السَّلام لما سمع صوتهما؛ خرج من البيت لأجلهما، ومر بهما، فلا تنافي بين الروايتين؛ فافهم.

وقال ابن سيده: (السجف؛ بالسين المهملة، والجيم، والفاء: الستر، وقيل: الستران المقرونان بينهما فرجة)، كما قدمناه؛ فافهم.

(ونادى) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (يا كعبُ بنَ مالك)؛ بِضَمِّ (كعب)؛ لأنَّه علم مفرد، ويجوز فتحه إتباعًا، وأمَّا (بنَ)؛ فهو منصوب لا غير؛ لأنَّه مضاف، ولأبوي ذر والوقت، والأصيلي، وابن عساكر: (ونادى كعب بن مالك) قال: يا كعب؛ (قال) : وللأصيلي (فقال)؛ بالفاء؛ أي: كعب: (لبيك يا رسول الله)؛ تثنية اللب؛ وهو الإقامة، وهو مفعول مطلق يجب حذف عامله، وهو من باب الثنائي الذي للتأكيد والتكرار، ومعناه: لبًّا بعد لبٍّ، أي أنا مقيم على طاعتك وإجابتك بعد إجابة، (فأشار) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (بيده) بالإفراد؛ أي: إليه (أن ضع) : على وزن (فع)؛ أمر من وضع يضع (الشطر)؛ أي: النصف، كما صرح به الأعرج في روايته (من دينك) وفي رواية الطَّبراني من حديث زمعة بن صالح، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم مرَّ به، وهو ملازم رجلًا (٢) في أوقيتين... ؛ الحديث، فعُلِم منه أنَّ الدَّين كان أوقيتين؛ فافهم.

(قال كعب: قد فعلت يا رسول الله)؛ أي: وضعت عنه الشطر، وهذا مبالغة في الامتثال بالأمر؛ لأنَّه أتى بـ (قد) المفيدة لتحقيق الأمر وتأكيده، (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) مخاطبًا لابن أبي حدرد على سبيل الأمر: (قم فاقضه)؛ أي: فادفع له الشطر الثاني الذي هو حقه بعد الوضع، وإنَّما أمره بذلك؛ لئلا يجتمع على رب الدَّين الحط والتأجيل.

قال إمام الشَّارحين: (ومطابقته للتَّرجمة في الاحتمال الثاني، وهو عدم المنع) انتهى، أي: يدل على جواز رفع الصوت في المسجد؛ لأنَّهما لما رفعا أصواتهما فيه؛ لم ينكره النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم عليهما؛ لأنَّه كان لحاجة، وأنَّ حديث عمر يدل على عدم الجواز، فيحمل على ما لا يحتاج إليه، ولهذا أنكر عليهما عمر، وأراد ضربهما، لكن عَذَرهما للجهل.

قال إمام الشَّارحين: (وقد وَرَد في حديث واثلة عند ابن ماجه يرفعه:


(١) في الأصل: (بيخرج)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (رجل)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>