للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وقد يقال: إنَّ الظاهر: أن الكراهة التنزيهية في الماء الراكد، أمَّا الجاري؛ فلا كراهة أصلًا، والله أعلم، وقالت الشافعية: إنَّ الكراهة تنزيهية على الأصح، وقيل: تحريمية، وقيل: خلاف الأَولى، وحكى الدارمي عن قوم من الشافعية: أنَّ الزيادة على الثلاث تبطل الوضوء؛ كالزيادة في الصلاة، قال العجلوني: (وهو مردود بأنه قياس فاسد، وخطأ ظاهر، ومخالف لما عليه العلماء)، وقال أحمد وإسحاق: لا تجوز الزيادة على الثلاث، وقال ابن المبارك: إنَّه يأثم.

قيل: مراد المؤلف: الإجماع على الكراهة في منع الزيادة على الثلاث وفيه نظر؛ لأنَّ الشافعي قال في «الأم» : (لا أحب الزيادة عليها؛ فإن زاد؛ لم أكرهه)، واعترض بأن المؤلف لم يذكر حديثًا في الباب، وأجيب: بأن قوله: (وبيَّن النبي عليه السلام...) إلخ: حديث؛ لأنَّ المراد من (الحديث) أعم من قول الرسول، غاية ما في الباب: أنه ذكره على سبيل التعليق، وكذا قوله: (وتوضأ...) إلخ: حديث؛ لما ذكرنا، ولا شك أن كلًّا منهما بيان للسنة، وهو المقصود من الباب، وتمامه في «عمدة القاري».

(٢) [باب لا تقبل صلاة بغير طهور]

هذا (باب) بالتنوين: (لا تُقبل)؛ بضم المثناة الفوقية، مبني لما لم يسم فاعله (صلاةٌ)؛ بالرفع نائب عن الفاعل، وفي رواية: (لا يقبل الله صلاة) (بغير طُهور)؛ بضم الطاء: الفعل الذي هو المصدر، والمراد به هنا ما هو أعم من الوضوء والغسل، وما زعمه الكرماني من تخصيصه بالوضوء؛ فليس بصواب؛ فافهم، وأمَّا بفتح الطاء؛ فهو الماء الذي يتطهر به.

وهذه الترجمة لفظ حديث رواه مسلم وغيره من حديث ابن عمر بزيادة قوله: «ولا صدقة من غلول»، وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه من طريق أبي المليح عن أبيه عن النبي الأعظم عليه السلام قال: «لا يقبل الله عز وجل صدقة من غلول، ولا صلاة بغير طهور»، وله طرق كثيرة ليس فيها شيء على شرط المؤلف؛ فلهذا عدل عنه إلى ما ذكره من حديث أبي هريرة مع أنَّ حديث ابن عمر مطابق لما ترجم له، وحديث أبي هريرة يقوم مقامه، كذا في «عمدة القاري».

[حديث: لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ]

١٣٥ - وبه قال: (حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي)؛ بالحاء المهملة والظاء المعجمة، المشهور بابن راهويه (قال: أخبرنا عبد الرزاق) : هو ابن همام (قال: أخبرنا مَعمَر)؛ بفتح الميمين، بينهما عين ساكنة مهملة، ابن راشد، (عن همَّام)؛ بتشديد الميم الأولى (بن مُنَبِّه) بضم الميم، وفتح النُّون، وتشديد الموحدة المكسورة: (أنه سمع أبا هريرة) : عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه (يقول) جملة وقعت حالًا (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُقبل) بضم المثناة الفوقية، مبني لما لم يسم فاعله (صلاةُ)؛ بالرفع نائب فاعل، كذا في أكثر الروايات، وفي رواية هنا وفي (ترك الحيل) : (لا يقبل الله صلاةَ)؛ بالنصب على المفعولية، والمراد بالقبول هنا: ما يرادف الصحة وهو الإجزاء، فحقيقة القبول: وقوع الطاعة مجزئة رافعة لما في الذمة، ولمَّا كان الإتيان بشروطها مظنَّة الإجزاء الذي هو القبول؛ عبَّر عنه بالقبول مجازًا، وأمَّا القبول المنفي في مثل قوله عليه السلام: «من أتى عرَّافًا؛ لم تقبل له صلاة»؛ فهو الحقيقي؛ لأنَّه قد يصح العمل، ولكن يتخلف القبول لمانعٍ، ولهذا كان بعض السلف يقول: لأن تقبل لي صلاة واحدة أحب إلي من جميع الدنيا، قال: ابن عمر؛ لأنَّ الله تعالى قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ} [المائدة: ٢٧]، والتحقيق هنا: أنَّ القبول يراد به شرعًا حصول الثواب، وقد تتخلف الصحة بدليل صحة صلاةِ العبد الآبق وشارب الخمر ما دام في جسده شيء منها، والصلاةِ في الدار المغصوبة، وأما ملازمة القبول للصحة ففي قوله عليه السلام: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار»، والمراد بالحائض: من بلغت سن الحيض؛ فإنَّها لا تقبل صلاتها إلا بالسترة، ولا تصح ولا تقبل مع انكشاف العورة، والقبول يفسر بترتب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء.

وقوله: «لا يقبل...» إلخ: عام في عدم القبول في جميع المُحدِثين في جميع أنواع الصلاة، والمراد بالقبول: وقوع الصلاة مجزئة بمطابقتها للأمر، فعلى هذا: يلزم من القبول الصحة ظاهرًا وباطنًا، وكذا العكس، وقيل: إن الصحة عبارة عن ترتب الثواب والدرجات على العبادة، والإجزاء عبارة عن مطابقة الأمر؛ فهما متغايران؛ أحدهما أخص من الآخر، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم؛ فالقبول على هذا أخص من الصحة؛ فكل مقبول صحيح ولا عكس؛ فليحفظ.

وقوله: (مَن)؛ موصولة مضافة لما قبلها وصلتها قوله: (أحدث)؛ أي: وُجِد منه الحدث، أو أصابه الحدث، أو دخل في الحدث، من الحدوث؛ وهو كون الشيء لم يكن، قال الصغاني: (وقول الفقهاء: أحدث؛ أي: أتى منه ما نقض طهارته؛ فلا تعرفه العرب) انتهى.

قلت: وفيه أن الحدث: الشيء الحادث؛ فيطلق على كل ما نقض الوضوء؛ لحدوثه، وهذا بموضوعه يطلق على الأكبر؛ كالجنابة، والحيض، والنفاس، والأصغر؛ كنواقض الوضوء، وقد يسمَّى المنع المترتب عليه: حدثًا، وبه يصح قولهم: رفعت الحدث ونويت رفعه، وإلا استحال ما يرفع إلا أن يكون رافعًا، وكان الشارع جعل أمد المنع المترتب على خروج الخارج إلى استعمال المطهر، وبهذا يقوى قول من يرى أن التيمم يرفع الحدث؛ لكون المرتفع هو المنع، وهو مرتفع بالتيمم، لكنه مخصوص بحالة ما أو بوقت ما، وليس ذلك ببدع؛ فإنَّ الأحكام قد تختلف باختلاف محلِّها، وقد كان الوضوء في صدر الإسلام واجبًا لكلِّ صلاة؛ فقد ثبت أنه كان مختصًّا بوقت مع كونه رافعًا للحدث اتفاقًا، ولا يلزم من انتفائه في ذلك الوقت بانتهاء وقت الصلاة ألَّا يكون رافعًا للحدث، ثمَّ زال ذلك الوجوب، كما عرف.

وذكر الفقهاء أن الحدث: وصف حكميٌّ مقدَّر قيامه بالأعضاء على معنى الوصف الحسي، ويُنْزِلون الوصف الحكمي منزلة الحسي في قيامه بالأعضاء، فمن يقول: بأنَّ التيمم لا يرفع الحدث؛ يقول: إن الأمر المقدر الحكمي باق لم يزل، والمنع الذي هو ترتب عليه التيمم زائل.

(حتى) للغاية؛ بمعنى: إلى أن (يتوضأ) بالماء أو ما يقوم مقامه؛ لأنَّه قد أتى بما أُمِر به، على أنَّ التيمم من أسمائه الوضوء، قال عليه السلام: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين»، رواه النسائي بإسناد صحيح عن أبي ذر، فأطلق الشارع على التيمم أنَّه وضوء؛ لكونه قام مقامه، وهذا نفي القبول إلى غاية وهي الوضوء، وما بعد الغاية مخالف لما قبلها؛ فاقتضى قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقًا، ودخل تحته الصلاة الثانية قبل الوضوء لها ثانيًا؛ فإن لفظ: (صلاة) اسم جنس؛ فيعم، والمراد أنَّه قد أتى بباقي شروط الصلاة، والضمير في (يتوضأ) يرجع إلى من أحدث، وسمَّاه محدثًا وإن كان طاهرًا باعتبار ما كان؛ كما في قوله تعالى: {وَآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: ٢]، وإنما اقتصر على الوضوء؛ نظرًا لكونه الأصل، أو لكثرة وقوعه، وهذا آخر الحديث والباقي إدراج من همَّام؛ حيث قال: (قال رجل) لم يعرف اسمه (من حَضْرمَوت)؛ بفتح الحاء المهملة، وسكون الضَّاد المعجمة، وفتح الميم، اسم بلد باليمن وقبيلة أيضًا، وهو من المركَّب المزجي، فهما اسمان جُعِلا اسمًا واحدًا، والأول منه مبني على الفتح على الأصح، والثاني المنع من الصرف، وقيل: ببنائهما على الفتح، وقيل: بإعرابهما فيقال: هذا حضرُموتِ برفع الرَّاء وجر التاء، ويجوز فيه الإضافة،

<<  <   >  >>