للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

إن سبب النهي أن اليهود تكنوا به وكانوا ينادون: يا أبا القاسم، فإذا التفت النبي الأعظم؛ قالوا: لم نعنك؛ إظهارًا للإيذاء، وقد زال ذلك المعنى.

(ومن) : موصولة تتضمن معنى الشرط (رآني في المنام) : وهو ثلاثة أقسام: رؤيا من الله تعالى، ورؤيا من الشيطان، ورؤيا مما حدث به المرء نفسه، والأحاديث في هذا الباب نفت القسم الثاني، وكذا لا يجوز أن تكون رؤيته عليه السلام من القسم الثالث؛ لأنَّ الاجتماع بين الشخصين يقظة ومنامًا؛ لحصول الاتحاد إما في الذات، أو في الصفة، أو في الأحوال، أو في الأفعال، أو في المراتب، فمن حصل له هذه؛ ثبتت المناسبة بينه وبين الأرواح الماضية فيجتمع بهم، ولا كذلك النبي الأعظم؛ لأنَّ حديث المرء نفسه ليس مما يقدر أن يحصل مناسبة بينه وبين النبي الأعظم عليه السلام، فثبتت أن رؤياه عليه السلام من الله تعالى.

وقوله: (فقد رآني) : جواب الشرط، وفي رواية: (فقد رأى الحق)، وفي أخرى: (فسيراني في اليقظة)، وفي أخرى: (فكأنما رآني في اليقظة)، وحقيقة الرؤيا: إدراكات يخلقها الله في قلب العبد على يد الملك أو الشيطان، ونظيره في اليقظة: الخواطر، وقيل: هي اعتقادات فما يريه الملك الموكل بها يطلعه على قصص بني آدم من اللوح، فهو ينسخ منها ويضرب لكل على قصته مثلًا، فإذا نام؛ تمثل له تلك الأشياء على طريق الحكمة؛ ليكون له بشارة، أو نذارة، أو معاينة؛ ليكون على بصيرة من الأمر.

(فإنَّ الشيطان) : الفاء للتعليل، و (الشيطان) : اسم (إنَّ)، وخبرها قوله: (لا يتمثل في صورتي) : وفي رواية: (فإنَّه لا ينبغي للشيطان أن يتشبه بي)، وهذا تفسير للأول؛ لأنَّ معنى قوله: (فقد رآني)؛ أي: رأى الحق، ورؤياه ليست بأضغاث أحلام ولا من تشبيه الشيطان، فرؤياه حق صحيحة.

الحديث على ظاهره، والمراد: أن من رآه؛ فقد أدركه عليه السلام ولا مانع منه، وقيل: إن رآه بصفته المعلومة؛ فهو إدراك الحقيقة، وإن رآه على غير صفته؛ فهو إدراك المثال، فتكون رؤيا تأويل، والصحيح الثاني.

فمعنى قوله: (فقد رآني)؛ أي: فقد رأى مثالي في الحقيقة؛ لأنَّ المرئي في المنام مثاله، وليس المراد أنه رأى جسمي وبدني، بل رأى مثالًا (١)، صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى، فالملك الموكل يمثل بالموجود ما في اللوح المحفوظ من المناسبة، ومعنى قوله: (فسيراني في اليقظة) : وكأنما رآني في اليقظة سيرى تفسير ما رأى؛ لأنَّه حق، وقيل: سيراه في القيامة، وقيل: أهل عصره بمن لم يهاجر، فتكون الرؤية في المنام علمًا له على رؤيته في اليقظة.

وقوله: (فإنَّ الشيطان لا يتمثل بصورتي)؛ أي: في صفتي، وهي صفة الهداية، وقيل: هي على الحقيقة، وهي التخطيط (٢) المعلوم المشاهد له عليه السلام، وهذا ظاهر، فقالوا: رؤيته عليه السلام هي أن يراه الرائي بصورة شبيهة لصورته الثابتة حليتها بالنقل الصحيح، حتى لو رآه في صورة مخالفة لصورته التي كان عليها في الحسن؛ لم يكن رآه عليه السلام، كأن يراه طويلًا، أو قصيرًا، أو أشقر، أو شيخًا، أو شديد السمرة، ونحو ذلك.

ومثله عليه السلام بقية الأنبياء والملائكة؛ فإنَّها حق لا يتمثل الشيطان بهم، وقد منَّ الله علي في رؤيتي له عليه السلام، ورؤيتي لموسى عليه السلام، ورؤيتي لعلي بن أبي طالب، والحمد [لله] تعالى على ذلك.

(ومن كذب عليَّ متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار) : ومقتضى الحديث استواء تحريم الكذب عليه في كل حال، سواء كان في اليقظة أو في النوم، وإذا كانت رؤياه حقًا فهل يطلق [عليه] الصحابي؟

أجيب: بأنه لا يطلق عليه ذلك؛ لأنَّ المراد من الرؤية المعهودة الجارية على العادة أو الرؤية في حياته في الدنيا فلا يصدق عليه الصحابي إلا وهو مسلم رآه عليه السلام، وأما الحديث المسموع في المنام؛ فهو ليس بحجة؛ لأنَّه يشترط في الاستدلال به أن يكون الراوي ضابطًا عند السماع، والنوم ليس حاله الضبط، وحديث: (من كذب عليَّ) في غاية الصحة حتى أطلق عليه جماعة: أنه متواتر، ونوزع بأن شرط التواتر استواء طرفيه وما بينهما في الكثرة وليست موجودة في كل طريق بمفردها.

أجيب: بأن المراد من إطلاق كونه متواترًا رواية المجموع عن المجموع من ابتدائه إلى انتهائه في كل عصر، وهذا كاف في إفادة العلم، والله أعلم.

(٣٩) [باب كتابة العلم]

هذا (باب كتابة العلم) : ولا يخفى أنه مستحب، بل واجب في زماننا؛ لقلة اهتمام الناس بالحفظ، كما في «عمدة القاري».

[حديث أبي جحيفة: قلت لعلي: هل عندكم كتاب]

١١١ - وبه قال: (حدثنا ابن سلَام) : محمد أبو عبد الله البيكندي، وهو بتخفيف اللام، وقد تشدد، وفي رواية: (محمد بن سلام) (قال: أخبرنا وكيع) : بن الجراح بن مليح الكوفي المفتي على مذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، قال حماد بن زيد: إنَّه أرجح من سفيان، المتوفى يوم عاشوراء سنة تسع وتسعين ومئة عن إحدى وسبعين سنة، (عن سفيان) : ابن عُيينة -بضم العين- أو الثوري، وجزم بالأول في «عمدة القاري»، وجزم بالثاني ابن حجر؛ لشهرة وكيع بالرواية عنه، وردَّ بأن وكيعًا مشهور بالرواية عن السفيانين كليهما، ونص في «الأطراف» على أنَّه ابن عيينة؛ فليحفظ.

(عن مُطَرِّف)؛ بضم الميم، وفتح الطاء، وكسر الراء المشددة، آخره فاء: ابن طَريف -بطاء مهملة مفتوحة-، أبو بكر الكوفي الحارثي، المتوفى سنة ثلاث وثلاثين ومئة، (عن الشَّعْبي) : عامر؛ بفتح المعجمة وسكون المهملة، (عن أبي جُحَيْفة)؛ بضم الجيم، وفتح المهملة، وسكون التحتية، واسمه وهب بن عبد الله السُّوائي -بضم السين المهملة، وتخفيف الواو وبالمد-، الكوفي، وكان علي رضي الله عنه يكرمه ويحبه، وجعله على بيت المال، وهو من صغار الصحابة، المتوفى سنة اثنين وسبعين، (قال: قلت لعلي) : الصديق الأصغر، زاد الأصيلي: (ابن أبي طالب رضي الله عنه).

(هل) : للاستفهام (عندكم) : الخطاب لعلي إما للتعظيم، أو لإرادته مع سائر أهل البيت النبوي، أو للالتفات من خطاب المفرد إلى خطاب الجمع (كتاب)؛ بالرفع مبتدأ، وخبره: (عندكم) مقدمًا؛ أي: مكتوب أخذتموه عن النبي الأعظم عليه السلام مما أوحي إليه، ويدل لهذا ما عند المؤلف في (الجهاد) : (هل عندكم شيء من الوحي)، وإنما سأله أبو جحيفة؛ لأنَّ الشيعة كانوا يزعمون أن النبي عليه السلام خص أهل البيت، لا سيما علي بأسرار من علم الوحي لم يذكرها لغيره.

(قال) علي: (لا) كتاب عندنا (إلا كتاب الله)؛ بالرفع بدل من المستثنى منه، وهو استثناء متصل؛ لأنَّ المفهوم من الكتاب كتاب أيضًا؛ لأنَّه من جنسه، وما زعمه ابن حجر من أنه منقطع؛ رده في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.

(أو فهم)؛ بالرفع عطفًا على (كتاب)، ولو كان الاستثناء منقطعًا كما زعمه؛ لكان قوله: (أو فهم) منصوبًا، والرواية بالرفع؛ فليحفظ، والفهم: جودة الذهن بمعنى العلم (أعطيَه)؛ بفتح التحتية على صيغة المجهول، أسند إلى قوله: (رجل) : مفعول أول نائب عن الفاعل، والضمير المنصوب مفعول ثان (مسلم)؛ بالرفع صفة لـ (رجل) من فحوى الكلام ويدركه من بواطن المعاني التي هي غير الظاهر من نصه، كوجوه الأقيسة والمفاهيم وسائر الاستنباطات، وما قاله ابن المنير رده في «عمدة القاري».

ويدل لهذا قوله: (أو ما) : عطف على (كتاب الله)، و (ما) : موصولة مبتدأ بمعنى الذي، وقوله: (في هذه الصحيفة) : خبره؛ وهي الورقة المكتوبة، وكانت معلقة بقبضة سيفه إما احتياطًا أو استحضارًا، وإما لكونه منفردًا بسماع ذلك، وفي «النسائي» : (فأخرج كتابًا من قراب سيفه)، واقتران الصحيفة بالسيف الإشعار بأن مصالح الدين ليست بالسيف وحده؛ بل بالقتل تارة، وبالدية أخرى، وبالعفو تارة أخرى.

(قال) أبو جحيفة: (قلت: وما) : وفي رواية: (فما)، وكلاهما للعطف استفهام مبتدأ؛ أي: أي شيء (في هذه الصحيفة) : خبر المبتدأ (قال) الصديق الأصغر: (العقل)؛ بالرفع مبتدأ حذف خبره؛ أي: فيها العقل، والمضاف فيه محذوف أيضًا؛ أي: حكم العقل؛ أي: الدية، وإنما سميت به؛ لأنَّهم كانوا يعطون فيها الإبل ويربطونها بفناء دار المقتول بالعقال؛ وهو الحبل، والمراد أحكامها، ومقاديرها، وأصنافها، وأسنانها، كما في «عمدة القاري».

وفي رواية «الصحيحين» من طريق يزيد التيمي: فإذا فيها: «المدينة حرام...»؛ الحديث، ولمسلم عن أبي الطفيل: فأخرج صحيفة مكتوب فيها: «لعن الله من ذبح لغير الله...»؛ الحديث، وللنسائي من طريق الأشتر: فإذا فيها: «المؤمنون يتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم...»؛ الحديث، ولأحمد من طريق ابن شهاب: فإذا فيها: (فرائض الصدقة)، والجمع بين هذه الأحاديث أنَّ الصحيفة كانت واحدة وكان جميع ذلك مكتوبًا فيها فنقل كل من


(١) في الأصل: (مثال).
(٢) في الأصل: (التخلطيط).

<<  <   >  >>