للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

(يوم نوبته)؛ أي: يومًا من أيام نوبته، فسمع أنَّ النبيَّ الأعظم عليه السلام اعتزل نساءه، فرجع إلى العوالي فجاء، (فضرب بابي) فالفاء تسمَّى فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصحت عن شرط مقدر (ضربًا شديدًا، فقال: أثَمَّ هو)؛ بفتح المثلثة وتشديد الميم: اسم يُشار به إلى المكان البعيد، وهو ظرف لا ينصرف، (ففزِعت)؛ بكسر الزاي؛ أي: خِفت لأجل الضرب الشديد؛ لأنَّه كان على خلاف عادته، فـ (الفاء) تعليلية، وللمؤلف في (التفسير) : (قال عمر: كنا نتخوَّف مَلِكًا من ملوك غسان ذُكر لنا أنَّه يريد أن يسير إلينا وقد امتلأت صدورنا منه، فتوهَّمت لعلَّه جاء إلى المدينة، فخفته لذلك)، (فخرجت إليه فقال: قد حدث أمر عظيم) أراد به اعتزاله عليه السلام عن أزواجه الطاهرات، وإنَّما وصفه بالعظمة؛ لكونه مَظِنَّة الطلاق وهو عظيم، لا سيما بالنسبة إلى عمر؛ فإنَّ بنته إحدى زوجاته، وفي أصل الحديث بعد قوله: (أمر عظيم) : (طلق رسول الله عليه السلام نساءه، قلت: قد كنتُ أظنُّ أنَّ هذا كائنٌ حتى إذا صليت الصبح شددتُ عليَّ ثيابي ثم نزلت)، (فدخلت على حفصة) أمِّ المؤمنين، فالداخل أبوها عمر، لا الأنصاري، و (الفاء) تفصيحية أفصحت عن المقدر؛ أي: نزلت من العوالي فجئت إلى المدينة فدخلت على حفصة؛ (فإذا هي تبكي) مبتدأ وخبره، (فقلت) لها: (طلقكُنَّ) وفي رواية: (أطلقكُنَّ) (رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت)؛ أي: حفصة: (لا أدري)؛ أي: لا أعلم، ومفعوله محذوف؛ أي: أنَّه طلق، (ثمَّ دخلتُ على النبيِّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: فخرجت من عندها ودخلت عليه، (فقلت وأنا قائم) : يا رسول الله؛ (أَطلقتَ نساءك؟)؛ بهمزة الاستفهام مفتوحة، (قال) عليه السلام: (لا، فقلت) وللأصيلي: (قلت) : (الله أكبر!) وقع موقع التعجُّب من كون الأنصاري ظنَّ أنَّ اعتزالَه عليه السلام عن نسائه طلاقٌ أو ناشئٌ عنه، فلمَّا رأى عمرُ أنَّ صاحبه لم يصب في ظنِّه؛ تعجَّب منه بلفظ: (الله أكبر).

وإيراد هذا الحديث هنا للتناوب (١) في العلم، وفيه: جواز دخول الآباء على البنات بغير إذن أزواجهنَّ، وفيه: أنَّ لطالب العلم أن ينظر في معيشته وما يستعين به، وفيه: قبول خبر الواحد، وفيه: توقيت يوم للعلم ويوم للمعيشة، والله أعلم.

(٢٨) [باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره]

هذا (باب الغضب) بالإضافة، وهو انفعال يحصُل من غليان الدم لشيءٍ دخل في القلب (في) حالة (الموعظة)؛ أي: الوعظ (و) في حالة (التعليم إذا رأى) الواعظ أو المعلِّم (ما يكره)؛ أي: الذي يكرهه، فحذف العائد.

أراد المؤلف الفرق بين قضاء القاضي وهو غضبان، وبين تعليم العلم أو تذكير الوعظ؛ فإنَّه بالغضب أجدر وخصوصًا بالموعظة، كذا قاله الشيخ الإمام بدر الدين العيني، وتبعه ابن المُنَيِّر والبِرماوي، واعترضه الدَّماميني؛ حيث قال: أمَّا الوعظ؛ فمُسَلَّم، وأمَّا تعليم العلم؛ فلا نُسَلِّم أنَّه أجدر بالغضب؛ لأنَّه ممَّا يدهش الفكر، فقد يفضي التعليم به إلى خلل، والمطلوبُ كمالُ الضبط.

قلت: وهو مردودٌ؛ فإنَّ الغضب يقوِّي القلب ويحسِّنه، ويخرج الجواب منه سريعًا على الصواب، ويتفتَّح الفكر به، ويزول عن العقل جميع العوارض المخلَّة للتعليم، فيصير جوهره مضيئًا بسبب غليان الدم، فيحصل به كمال الضبط، ولا يفضي إلى خلل؛ فليحفظ.

[حديث: أيُّها الناس إنكم منفرون فمن صلى بالناس فليخفف]

٩٠ - وبه قال: (حدثنا محمد بن كَثير)؛ بفتح الكاف وبالمثلثة، العبْدي؛ بسكون الموحدة، البصري، المتوفى سنة ثلاث وعشرين ومئتين (قال: أخبرنا) ولأبي ذر: (أخبرني) (سفيان) هو الثوري، (عن ابن أبي خالد) : هو إسماعيل البجلي الكوفي الأحمسي التابعي الطحان، (عن قيس بن أبي حازم)؛ بالمهملة والزاي: أبو عبد الله الأحمسي الكوفي البجلي المخضرم، (عن أبي مسعود) عقبة بن عمرو (الأنصاري) الخزرجي البدري أنَّه (قال: قال رجل) قيل: هو حزم بن أبي كعب: (يا رسول الله؛ لا أكاد أدرك الصلاة) قال ابن الحاجب: إذا دخل النفي على (كاد)؛ فهو كالأفعال على الأصح، (مما يطول بنا) (مِن) للتعليل، و (ما) : مصدريَّة، وفي رواية: (ممَّا يطول لنا)، وفي أخرى: (ممَّا يطيل)، فالأُولى من التطويل، وهذه من الإطالة (فلان) فاعله، كناية عن اسم سمَّى به المحدث عنه، ويقال لغير الآدمي: الفلان، بالتعريف، وهو معاذ بن جبل رضي الله عنه، وفي رواية المؤلف عن الفِريابي: (لأتأخَّر عن الصلاة)، وجاء عند المؤلف أيضًا: (إنِّي لأدع الصلاة)، فهاتان الروايتان يُنبئان أنَّ المعنى: أنِّي أتأخَّر عن الصلاة مع الجماعة، ولا أكاد أُدركها لأجل تطويل فلان، (فما رأيت النبيَّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم في موعظة أشدَّ غضبًا) بالنصب على التمييز (من يومئذٍ) وفي رواية: (منه من يومئذٍ)، ولفظ (من) صلة (أشد)، والضمير راجع إليه عليه السلام، فيلزم أن يكون المفضَّل والمفضَّل عليه شيئًا واحدًا، أُجيب: إنَّما جاز ذلك باعتبارين؛ فهو مفضَّل باعتبار يومئذٍ، ومفضَّل عليه باعتبار سائر الأيام، كذا في «عمدة القاري».

(فقال) عليه السلام: (يا أيها الناس؛ إنَّكم منفِّرون) عن الجماعات، وفي رواية بإسقاط حرف النداء، وفي أخرى: (إنَّ منكم منفِّرين)، وإنَّما خاطب الكلَّ ولم يُعيِّن المطوِّل؛ كرمًا ولطفًا به حتى لا يحصُل له الخجل، وكانت هذه عادته عليه السلام، (فمَن صلَّى بالناس)؛ أي: ملتبسًا بهم إمامًا لهم؛ (فليخفف) جواب (مَن) الشرطيَّة، بأن يقتصر على الفاتحة وسورة من قصار المفصَّل، وهذا أدنى التخفيف، ويزيد على ذلك برضا القوم، (فإنَّ فيهم المريض) (الفاء) للتعليل، و (المريض) منصوب؛ لأنَّه اسم (إنَّ) وما بعده عطف عليه، وخبرها قوله: (فيهم) مقدَّمًا؛ وهو الذي ليس بصحيح، (والضعيف)؛ أي: النحيف أو المسنُّ (وذا) بالنصب؛ أي: صاحب (الحاجة) وفي رواية: (وذو الحاجة) بالرفع: مبتدأٌ خبرُه محذوف، والجملة عطف على الجملة المتقدِّمة، أي: وذو الحاجة كذلك، وإنَّما غضب عليه السلام؛ لأنَّه كره التطويل في الصلاة من أجل أنَّ فيهم المريض ونحوه، فأراد الرِّفق والتيسير بأُمَّتِه، ولم يكن نهُيهه عن التطويل لحرمته؛ لأنَّه كان يصلِّي في مسجده ويقرأ بالطِّوال كـ (يوسف)، وكان يقصر فيقرأ بالفجر المعوذتين لما سمع بكاء الصبي ونحوه.

فالمراد الإرشاد بأن يكون الإمام حكيمًا ينظر في القوم، فإن كان مرادُهم التخفيف؛ خفَّف، وإن كان مرادُهم التطويل؛ طوَّل، وإنَّما اقتصر على هذه الثلاثة؛ لأنَّه متناول لجميع الأنواع المقتضية للتخفيف؛ لأنَّه المقتضى له إما في نفسه أو لا، والأوَّل إمَّا بحسب ذاته وهو الضعيف، أو بحسب العارض وهو المريض، أو لا في نفسه؛ وهو ذو الحاجة.

وفي الحديث جواز التأخير عن صلاة الجماعة الأولى، وذكر الإنسان بفلان، والغضب لأمر منكر، والإنكار على مَن ارتكب منهيًّا، والتعزير على إطالة الصلاة إذا لم يرض القوم.

[حديث: أن النبي سأله رجل عن اللُّقَطَة]

٩١ - وبه قال: (حدثنا عبد الله بن محمد) أبو جعفر المسنَدي؛ بفتح النون (قال: حدثنا أبو عامر) عبد الملك بن عمرو العقدي، كما في رواية (قال: حدثنا سليمان بن بلال المديني) وفي رواية: (المدني)، فالأوَّل: منسوب إلى مدينة المنصور، والثاني: إلى مدينة الرسول، ويقال: (مدائني) إلى مدائن كسرى، (عن ربيعة) المشهور بالرأي؛ بالتشديد والتخفيف، منسوب إلى الرأي (بن أبي عبد الرحمن) شيخ مالك الإمام، (عن يزيد) من الزيادة (مولى المنبعث)؛ بالنون، والموحدة، والمهملة، والمثلثة، المدني، (عن زيد بن خالد الجُهَني)؛ بضم الجيم وفتح الهاء وبالنون، نزيل الكوفة المتوفَّى بها، أو المدينة، أو مصر، سنة ثمان وسبعين عن خمس وثمانين، والظاهر الأول، منسوب إلى جهينة، وكنيته: أبو طلحة، أو أبو عبد الرحمن، أو أبو زرعة، وكان معه لواء جهينة يوم الفتح: (أنَّ النبيَّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم سأله رجل) هو عُمير والد مالك، كذا في «عمدة القاري»، وقيل: بلال المؤذِّن، وقيل غيرهما، وهو بعيد، (عن اللُّقَطة)؛ بضم اللام وفتح القاف وقد تسكن: الشيء الملقوط، (فقال له) عليه السلام، ولكريمة: (قال) : (اعرف)؛ بكسر الهمزة: من المعرفة (وِكاءَها) بالنصب مفعول (اعرف)؛ بكسر الواو ممدودًا: ما يُشَدُّ به رأس الصرَّة والكيس، أو الخيط الذي يُشَدُّ به الوعاء، (أو قال: وِعاءَها)؛ بكسر الواو: الظرف، والشك إمَّا مِن زيد أو ممَّن دونه من الرواة، (وعِفاصَها)؛ بكسر العين المهملة وبالفاء؛ الوعاء الذي يكون فيه النفقة من جلد أو خِرقة أو نحوهما، وهذا دليل على أنَّ لقطةَ الحلِّ والحرم سواءٌ، وهو مذهب الإمام الأعظم والجمهور، خلافًا للشافعي، وإنَّما أمره بذلك؛ ليعرف صدق مدعيها أو كذبه،


(١) في الأصل: (التناوب)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>