للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ابن بطال: (وجه إدخال هذه التَّرجمة في الفقه بما روي في النَّهي عن التشبيك في المسجد، وقد وَرَدت فيه مراسيل، ومسند من طريق غير ثابتة).

وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: كأنَّه أراد بالمسند حديث كعب بن عجرة الذي ذكرناه.

فإن قلت: حديث كعب هذا رواه أبو داود، وصححه ابن حبان وابن خزيمة.

قلت: في إسناده اختلاف، فضعَّفه بعضهم بسببه، وقيل: ليس بين هذه الأحاديث معارضة؛ لأنَّ النَّهي إنَّما وَرَد عن فعل ذلك في الصلاة أو في المضي إلى الصلاة، وفعله عليه السَّلام ليس في الصلاة ولا في المضي إليها، فلا معارضة إذًا، وبقي كل حديث على حياله.

فإن قلت: في حديث أبي هريرة الذي في الباب وقع تشبيكه عليه السَّلام وهو في الصلاة.

قلت: إنَّما وقع بعد انقضاء الصلاة في ظنه، فهو في حكم المنصرف من الصلاة، والرواية التي فيها النَّهي عن ذلك ما دام في المسجد ضعيفة؛ لأنَّ فيها ضعيفًا ومجهولًا، وقد رواها ابن أبي شيبة، ولفظه: «إذا صلى أحدكم؛ فلا يشبكن بين أصابعه، فإن التشبيك من الشَّيطان، وإنَّ أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه».

وقال ابن المُنَيِّر: (التحقيق أنَّه ليس بين هذه الأحاديث تعارض؛ إذ المنهي عنه فعله على وجه العبث، والذي في الحديث إنَّما هو لمقصود التمثيل وتصوير المعنى في اللَّفظ) انتهى.

أي: فهو لمعنًى صحيح كإراحة الأصابع ونحوها.

(ولفظه) أي: الحديث المذكور (في «جمع الحميدي»)؛ أي: كتاب «الجمع بين الصَّحيحين» الذي جمعه أبو عبد الله محمَّد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن حميد بن يصل الأزدي الحميدي الأندلسي، الحافظ المشهور، المتوفى ليلة الثلاثاء سابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وأربع مئة ببغداد، وليس هذا عبد الله بن الزُّبير الحميدي، فإنَّه شيخ المؤلف، توفي سنة تسع عشرة ومئتين؛ فافهم.

والظَّاهر أنَّ هذا من زيادات بعض الرواة، ورأيتها ثابتة في نسخة إمام الشَّارحين ملحقة بالحديث، فألحقتها تبعًا له حتى تتم الفائدة؛ لأنَّه قد شرحها في شرحه رضي الله عنه.

(في مسند ابن عمر)؛ أي: من رواية عبد الله بن عمر بن الخطاب: (شبك النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم أصابعه)؛ أي: أدخل أصابع يده في أصابع يده الأخرى، (وقال: كيف أنت يا عبد الله إذا بقِيت) بكسر القاف (في حُثالة) بِضَمِّ المهملة، وتخفيف المثلَّثة (من الناس)؛ أي: جهَّالهم وأوساخهم (قد مُرِحَت) بِضَمِّ الميم، وكسر الرَّاء، وفتح الحاء المهملة (عهودهم وأماناتهم)، قال أبو المعالي: (إذا لم تثبت وأمرحوها؛ إذا لم يوفوا بها وخلطوها، ومرحت أماناتهم: فسدت، ومرح الدِّين: اختلط واضطرب)، وفي «المحكم» : (مرح الأمر مرحًا، فهو مارح ومريح: التبس واختلط، ومرح أمره يمرحه: ضيَّعه، ورجل ممراح: يمرح أموره ولا يحكمها، ومرح العهد والدِّين والأمانة: فسد، وأمرح عهده: لم يف به) انتهى، (واختلفوا فصاروا هكذا) وإنَّما كان سبب اختلافهم فساد عهودهم وخيانة أماناتهم، (وشبك) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (بين أصابعه)؛ أي: أدخل بعضها في بعض، فالإشارة إلى التشبيك، ويحتمل هذا من كثرة الفتن التي تحدث بهم، فهو إخبار بما سيقع، (قال) أي: عبد الله: (فكيف أفعل يا رسول الله؟)؛ يعني: إذا رأيت هذا الزمان وأهله هكذا؟ (قال) عليه السَّلام له: (تأخذ ما تعرف)؛ أي: تُقبِلُ على الذي تعرفه صحيحًا في الشريعة، (وتدع) أي: تترك (ما تنكر)؛ أي: الذي ينكره ويرده الشرع المطهر (وتقبل على خاصتك)؛ أي: خواص أهلك، أو خواص الناس، وهم الذين امتثلوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه، (وتدعهم) أي: بقية الناس؛ أي: تتركهم (وعَوَامَّهم)؛ بفتح العين المهملة والواو مع تشديد الميم؛ أي: الذين لا يقرؤون ولا يفهمون الشرع أو هم الخائضون في المعاصي المنهمكون في حب الدنيا على غير ما يرضي الله تعالى ورسوله عليه السَّلام، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: ١٠٥]، وفي الحديث: «عليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة».

وقال إمام الشَّارحين: (مطابقة الحديث للتَّرجمة في أحد جزأيها، واكتفى البخاري بدلالته على بعض التَّرجمة حيث دل حديث أبي هريرة على تمامها) انتهى.

قلت: وعلى هذا لا معارضة لأحاديث النَّهي؛ لأنَّ المنهي عنه فعله على وجه الولع والذي في الحديث إنَّما هو لقصد التمثيل وتصوير المعقول بصورة المحسوس، كما فعله عليه السَّلام لابن عمر حيث شبك أصابعه؛ ليمثل له صفة اختلاطهم.

وقال إمامنا الشَّارح: (وحكمة النَّهي عن التشبيك أمور؛ أحدها: لكونه من الشَّيطان كما سبق في الحديث، الثاني: لأنَّه يجلب النَّوم وهو من مظان الحدث، الثالث: أنَّ صورة التشبيك تشبه صورة الاختلاف كما نبَّه عليه في الحديث المذكور، فكره ذلك لمن هو في حكم الصلاة حتى لا يقع في المنهي عنه، وهو قوله عليه السَّلام للمصلين: «ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم») انتهى.

وفي «المنحة» : (ويكره التشبيك في الصلاة وكذا في غيرها بلا حاجة) انتهى.

قلت: وهذا مذهب محمَّد بن إدريس، وقد أغفلناه فيما سبق؛ لأنَّ العجلوني لم يتعرض له؛ فافهم.

[حديث: إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا]

٤٨١ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا خَلَّاد) بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللَّام (بن يحيى) هو ابن صفوان أبو محمَّد السلمي الكوفي، سكن مكة مات بها قريبًا من سنة ثلاث عشرة ومئتين (قال: حدثنا سفيان) هو الثَّوري الكوفي، (عن أبي بُردة)؛ بِضَمِّ الموحَّدة، واسمه بريد؛ مصغر برد، وفي رواية الكشميهني: (عن بريد) (بن عبد الله بن أبي بُردة)؛ بِضَمِّ الموحَّدة، ابن أبي موسى الأشعري الكوفي، (عن جده) هو أبو بردة بن أبي موسى الكوفي، الثِّقة قاضي الكوفة، واسمه الحارث، وقيل: عامر، وهو جد أبي بردة الأول، (عن أبي موسى) هو عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه، (عن النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) أنَّه (قال: إنَّ)؛ بكسر الهمزة، وسقطت لابن عساكر (المؤمن للمؤمن)؛ أي: في الحاجة والمصلحة يلتمسان قضاءها (كالبُنْيان)؛ بِضَمِّ الموحَّدة وسكون النُّون؛ أي: كالحائط، وبمعنى المصدر أيضًا من (بنى يبني) (يشُدُّ)؛ بِضَمِّ المعجمة مضارع، وفي رواية المستملي: (شد) على صيغة الماضي (بعضُه)؛ بالرفع فاعله (بعضًا)؛ بالنصب مفعوله، ويقرب منه قوله عليه السَّلام: «مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» (وشبَّك) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (أصابعه)؛ أي: أدخل أصابع إحدى اليدين في أصابع الأخرى، وللأصيلي: (بين أصابعه)، والمقصود من هذا التمثيل: قوة تعاضد بعضهم لبعض، وفي السَّابق: تمثيل هيئة اختلاطهم

<<  <   >  >>