للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

أن فرض الصلاة ركعتان ابتداء حضرًا وسفرًا، ورد: بأنَّ هذا المعنى كان موجودًا في زمن النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، بل اشتهر أمر الصلاة في زمن عثمان أكثر مما كان، وقيل: لأنَّ عثمان نوى الإقامة بمكة بعد الحج، ورد: بأن الإقامة بمكة حرام على المهاجرين فوق ثلاث، وقيل: لأنَّه كان لعثمان أرض بمنًى، ورد: بأن ذلك لا يقتضي الإتمام والإقامة، والجواب الأول هو ما ذكره المحققون في تأويلهما، كذا في «عمدة القاري».

(٢) [باب وجوب الصلاة في الثياب وقول الله تعالى {خذوا زينتكم عند..}]

هذا (باب) في بيان (وجوب الصلاة في الثياب) : الجار والمجرور حال، وإنما ذكر (الثياب) بلفظ الجمع؛ لأنَّه على حد قولهم: فلان يركب الخيول، ويلبس البرود، والمراد به: ستر العورة، واتفق العلماء: على أن ستر العورة فرض بالإطلاق، واختلفوا هل هو شرط من شروط الصلاة أم لا؟ فمذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم، وأصحابه، وعامة الفقهاء، وأهل الحديث: أن ذلك شرط لصحة الصلاة فرضها ونفلها، وبه قال محمد بن إدريس.

واختلف أصحاب مالك: هل ذلك فرض أو سنة؟ فذهب جماعة: إلى أنه من سنن الصلاة، وقال التونسي: هو فرض في نفسه لا من فروضها، وقال ابن عطاء الله: إنه شرط فيها ومن واجباتها مع العلم والقدرة دون النسيان، والمشهور أنه ليس من شروطها، بل من سننها، وهو ظاهر مذهب مالك مستدلًّا بحديث عمرو بن سلمة لما انقلصت بردته، فقالت امرأة: غطوا عنا است قارئكم، وسيأتي بيانه.

فإن قلت: للصلاة شروط غير هذا، فما وجه تخصيصه بالتقدم على غيره؟

قلت: لأنَّه ألزم من غيره، وفي تركه بشاعة عظيمة بخلاف غيره من الشروط، ولأن في تركه سوء أدب مع الله تعالى، فإنه وإن كان يرى ما تحت الثياب إلا أنه يطلب في حقه الستر؛ تأدبًا مع الخالق عز وجل.

(وقول الله عز وجل) : بالجر عطفًا على قوله: (وجوب الصلاة)؛ والتقدير: وفي بيان معنى قول الله عز وجل، هذه رواية الأصيلي، وابن عساكر، وفي رواية غيرهما: (وقول الله تعالى)؛ يعني: في سورة الأعراف، قال: يا بني آدم ({خُذُوا زِينَتَكُمْ})؛ يعني: ثيابكم لأجل موارات عوراتكم ({عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}) [الأعراف: ٣١]؛ أي: لطواف أو صلاة، وأراد بالـ (زينة) : ما يواري العورة، وبالـ (مسجد) : الصلاة، ففي الأول: إطلاق اسم الحال على المحل، وفي الثاني: إطلاق اسم المحل على الحال؛ لوجود الاتصال الذاتي بين الحال والمحل، وهذا لأنَّ أخذ الزينة نفسها -وهي عرض- محالٌ، فأريد محلها، وهو الثوب مجازًا، وكانوا يطوفون بالبيت عراة، ويقولون: لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها، فنزلت هذه الآية، لا يقال: نزولها في الطواف، فكيف يثبت الحكم في الصلاة؟ لأنَّا نقول: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وهذا اللفظ عام؛ لأنَّه قد قال: {عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، ولم يقل: عند المسجد الحرام، فيعمل بعمومه، ويقال: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} من قبيل إطلاق المسبب على السبب؛ لأنَّ الثوب سبب الزينة، ومحل الزينة الشخص، وقيل: المراد بالزينة: ما يتزين به من ثوب وغيره، كما في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: ٣١]، والستر لا يجب لعين المسجد بدليل جواز الطواف عريانًا، فعلم من هذا أن ستره للصلاة لا لأجل الناس، حتى لو صلى وحده ولم يستر عورته؛ لم تجز صلاته وإن لم يكن عنده أحد، كذا في «عمدة القاري»، ويدل لهذا: قوله تعالى في قصة آدم قال: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا} : وهو ما يلبس اتقاء عن انكشاف العورة بين يدي الله تعالى، فبين أولًا إنزال ما يواري العورة من اللباس، وثانيًا بإنزال لباس التجمل، ثم فضل اللباس الأول على الثاني بأنه وسيلة إلى إقامة الفرض، والثاني إلى إقامة الأمر المندوب، وهو التزين عند حضور مواضع العبادات تعظيمًا لها، ولا ريب أن ما يكون وسيلة إلى إقامة الفرض خير مما يكون وسيلة إلى إقامة المندوب، فقال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: ٢٦]، وقال الإمام أبو منصور رحمه الله: (يحتمل أن معنى هذه الآية: صلوا في كل مسجد ولا تخصوا بالصلاة حيكم، والزينة نفس الصلاة، فإن العبادة زينة كل عابد)، فالزينة وإن كانت اسمًا لما يتزين به من الثياب الفاخرة إلا أن المراد بالزينة ههنا: الثياب التي تستر العورة، وقد أجمع المفسرون على ذلك استدلالًا بسبب نزول الآية، فإنه قد روي عن ابن عباس: أن أهل الجاهلية من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، وقالوا: لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب، فكان الرجال يطوفون بالنهار، والنساء بالليل، قال ابن عباس: فأمرهم الله تعالى أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا، وقال قتادة: كانت المرأة تطوف، وتضع يدها على فرجها، وتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله... وما بدا منه فلا أحله

فنزلت هذه الآية، وقال الكلبي: (الزينة: ما وارى العورة عند كل مسجد لطواف أو صلاة)، وقال مجاهد: وارِ (١) عورتك ولو بعباءة، فقد اتفق العلماء على أن المراد منه: ستر العورة، وفي «مسلم» من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة»، وعن المسور بن مخرمة: قال له النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «ارجع إلى ثوبك، فخذه ولا تمشوا عراة»، وفي «صحيح ابن خزيمة» عن عائشة ترفعه إلى النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يقبل الله صلاة امرأة قد حاضت إلا بخمار»، وقال ابن بطال: (أجمع أهل التأويل: على نزولها في الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة)، وقال ابن رشد: من حمله على الندب؛ قال: المراد بذلك الزينة الظاهرة من الرداء، وغيره من الملابس التي هي زينة، مستدلًّا بما في الحديث: أنه كان رجال يصلون مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عاقدي أزرهم على أعناقهم؛ كهيئة الصبيان، ومن حمله على الوجوب؛ استدل بحديث مسلم عن ابن عباس: كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة، فتقول: من يعيرني بطواف، أو تقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله... . . . . . . . . . . .

فنزلت: {خُذُوا زِينَتَكُمْ..}؛ الآية.

وزعم ابن حجر أن البخاري يشير بهذه الآية إلى ما قاله طاووس: إن المراد بالزينة: الثياب، ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا تخمين وحسبان، وليس عليه برهان).

قلت: وما زعمه ابن حجر باطل؛ لأنَّ مراد البخاري ليس


(١) في الأصل: (واري)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>