للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

كذلك، وإنما مراده الإشارة إلى أن ستر العورة في الصلاة فرض، ولهذا ترجم إليه بـ (باب وجوب الصلاة في الثياب)؛ يعني: مستور العورة، والثياب ليست قيدًا في ذلك، بل يجوز ستر العورة بحشيش أو طين عند فقد الثياب، وكذا يجوز سترها بجلد طاهر ونحوه، وإنما ذكر الثياب باعتبار الأغلب، وليس ما ذكره ابن حجر عن طاووس بصحيح؛ لأنَّ الذي قاله المفسرون عن طاووس: إنه قال: لم يأمرهم بالحرير أو الديباج، ولكن كان أهل الجاهلية يطوف أحدهم بالبيت عريانًا ويدع ثيابه وراء المسجد، فإن طاف وهي عليه؛ يضرب وانتزعت منه، فنزلت هذه الآية، فعلم بهذا أن المراد مما قاله طاووس: هو ستر العورة، وليس المراد: الزينة بمعنى: التجمل؛ حيث نفى ذلك بقوله: لم يأمرهم بالحرير أو الديباج، وما هو إلا للتجمل للنساء؛ فليحفظ.

وقوله: (ومن صلى ملتحفًا في ثوب واحد) : ثابت في رواية المستملي وحده، ساقط عند غيره من الرواة، ولهذا لم يتعرض له إمام الشَّارحين في «المنن»، وعلى إثباته يقال: وفي معنى الذي يصلي حال كونه ملتحفًا في ثوب واحد، فإنه جائز؛ حيث كان ساترًا للعورة، فالمقصود سترها سواء كان بثوب واحد أو أكثر؛ فافهم.

(ويُذكَر)؛ بضم المثناة التحتية أوله، وفتح الكاف، تعليق بصيغة التمريض، وهو يدل على ضعفه، ووجهه سيأتي بيانه (عن سَلَمَة)؛ بفتحات (ابن الأكْوع)؛ بسكون الكاف رضي الله عنه (أن النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم قال) : فيمن صلى بثوب واحد (يَزرُّه)؛ بفتح المثناة التحتية، وضم الراء المشددة، وللأصيلي: (تزره)؛ بمثناة فوقية، ولأبي ذر (يزر)؛ بحذف الضمير؛ يعني: يشده عليه بأن يجمع بين طرفيه؛ لئلا يفرج فترى عورته، وهذا التعليق وصله أبو داود فقال: حدثنا القعنبي: أخبرنا عبد العزيز -يعني: بن محمد- عن موسى بن إبراهيم، عن سلمة ابن الأكوع قال: قلت: يا رسول الله؛ إني رجل أصيد، أفأصلي بالقميص الواحد؟ قال: «نعم، وأزرره».

(ولو بشوكة) : وأخرجه النسائي، والمؤلف في «تاريخه»، وابن حبان، وابن خزيمة، وغيرهم، فقوله: (أفأصلي) : الهمزة فيه للاستفهام، فلذلك قال في جوابه: (نعم)؛ أي: تصلي، وقوله: (ولو بشوكة)؛ يعني: ولو لم يكن ذلك إلا بأن يزره بشوكة لأجل أن يستمسك بها عليك؛ فليفعل، والباء الموحدة فيه تتعلق بمحذوف؛ تقديره: ما ذكرنا، وهذه اللفظة فيما ذكره البخاري بالإدغام على صيغة المضارع، وفي رواية أبي داود: بالفك على صيغة الأمر من (زرَّ يزرُّ)، من باب (نصَر ينصُر)، ويجوز في الأمر الحركات الثلاث في الراء، ويجوز الفك أيضًا، فهي أربعة أحوال كما في (مد) الأمر، ويجوز في مضارعه الضم، والفتح، والفك، وقال ابن سيده: (الزر: هو الذي يوضع في القميص، والجمع أزرار وزرور، وأزر القميص: جعل له زرًّا، وأزره: شد عليه أزراره)، وقال ابن الأعرابي: (زر القميص: إذا كان محلولًا؛ فشده، وزر الرجل: شد زره)، وأورد المؤلف هذا؛ لدلالته على وجوب ستر العورة، وإشارة إلى أن المراد بأخذ الزينة في الآية السابقة لبس الثياب لا تزينها وتحسينها، وإنما أمر بالزر؛ ليأمن المصلي من وقوع الثوب عن بدنه، ومن وقوع نظره على عورته من زيقه حالة الركوع، ومن هذا أخذ الإمام محمد بن شجاع من أصحابنا: أن من نظر على عورته من زيقه؛ تفسد صلاته، قاله إمام الشَّارحين.

قلت: وعامة أئمتنا الأعلام: على عدم فساد صلاته بذلك، قال الشرنبلالي في «الإمداد» : (ولا يضر نظرها؛ أي: العورة من جيبه وأسفل زيله؛ لأنَّ ستر العورة على وجه لا يمكن الغير النظر إليها إذا تكلف مما يؤدي إلى الحرج وهو مدفوع بالنص) انتهى.

وقال في «النهر» : (لأنه يحل له مسها والنظر إليها، ولكنه خلاف الأدب، واختار برهان الدين الحلبي: أن تلك الصلاة مكروهة، وإن لم تفسد) انتهى.

وفي «الإمداد» : (ويشترط ستر العورة ولو في ظلمة، والشرط سترها من جوانبه على الصحيح) انتهى.

أمَّا الستر في الخلوة؛ فصحح برهان الدين الحلبي: وجوب الستر فيها، وصحح صاحب «الإمداد» : عدمه، فقد اختلف التصحيح، ووفق بعضهم بينهما: بأنه إذا كان مكان طوله ذراع ونصف، وعرضه كذلك؛ لا يجب الستر، وإن كان أكثر من ذلك؛ فواجب، وفي «شرح النقاية» للقهستاني: (وليس لستر الظلمة اعتبار، ومثله الستر بالزجاج)، كما في «القنية»، ولا يضر تشكل العورة بالتصاق الساتر الضيق بها، كما في شرح «المنية».

والعورة في اللغة: كل ما يستقبح ظهوره، مأخوذة من العور؛ وهو النقص، والعيب، والقبح، ومنه: عور العين، وكلمة عوراء؛ أي: قبيحة، وسميت السوءة عورة؛ لقبح ظهورها، وغض الأبصار عنها، وكل شيء يستره الإنسان أنفة أو حياء؛ فهو عورة، والنساء عورة، كذا ذكره أئمة اللغة، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب»، والله تعالى أعلم بالصواب.

قال أبو عبد الله المؤلف: (وفي) : وللأصيلي بحذف الواو (إسناده) أي: إسناد هذا الحديث المذكور (نظر) : وجه النظر كما قاله إمام الشَّارحين من جهة موسى بن إبراهيم، وزعم ابن القطان أنه موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، وهو منكر الحديث، فلعل البخاري أراده، فلذلك قال: (في إسناده نظر)، وذكره معلقًا بصيغة التمريض، لكن أخرجه ابن خزيمة في «صحيحه» عن نصر بن علي، عن عبد العزيز، عن موسى بن إبراهيم قال: سمعت سلمة ابن الأكوع؛ فذكره، وفي رواية: (وليس علي إلا قميص واحد، أو جبة واحدة، فأزره؟ قال: «نعم؛ ولو بشوكة»)، ورواه ابن حبان أيضًا في «صحيحه» : عن إسحاق بن إبراهيم: حدثنا ابن أبي عمر: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن ربيعة، عن سلمة ابن الأكوع قلت: (يا رسول الله؛ إني أكون في الصيد، وليس علي إلا قميص واحد؟ قال: «فازرره؛ ولو بشوكة»)، ورواه الحاكم في «مستدركه»، وقال: (هذا حديث مدني صحيح)، فظهر بهذه الرواية

<<  <   >  >>