للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

أن موسى هذا غير موسى ذاك الذي ظنه ابن القطان، وفيه ضعف أيضًا، ولكنه دون ذاك، وروى الحافظ أبو جعفر الطحاوي: حدثنا ابن أبي داود قال: حدثنا ابن قتيبة قال: حدثنا الدراوردي، عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن سلمة ابن الأكوع، وهذا اختلاف آخر، كذا قاله إمام الشَّارحين.

وزعم ابن حجر أن من صحح هذا الحديث؛ فقد اعتمد على رواية الدراوردي، ورده إمام الشَّارحين فقال: (ويجوز أن يكون وجه ذلك اعتمادًا على رواية موسى بن إبراهيم المخزومي لا على رواية موسى بن إبراهيم التيمي، والمخزومي: هو موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، وهذا هو الوجه في تصحيح من صححه، ويشهد لما قلنا رواية ابن حبان المذكورة آنفًا، ولا يبعد أن يكون كل واحد من المخزومي والتيمي روى هذا الحديث عن سلمة ابن الأكوع، وحمل عنهما الدراوردي، ورواه) انتهى.

وزعم ابن حجر أن ذكر محمد فيه شاذ، ورده إمام الشَّارحين فقال: (حكمه بشذوذه إن كان من جهة انفراد الحافظ الطحاوي؛ فليس بشيء؛ لأنَّ الشاذ من ثقة مقبول) انتهى.

قلت: على فرض كونه شاذًّا، والحال أنه ليس بشاذ؛ لأنَّ الحافظ الطحاوي إمام هذه الصنعة مشهور بكونه ثقة ثبتًا حجة، وحين كان كذلك كان ابن حجر منيًا في ظهر أبيه بعسقلان؛ فليحفظ.

(ومن صلى)؛ أي: وباب من صلى (في الثوب الذي يجامع)؛ بضم المثناة التحتية أوله؛ أي: يطأ (فيه) امرأته أو أمته؛ فحكمه: أنه (ما لم ير فيه أذى)؛ أي: من مني ونحوه من النجاسات؛ فصلاته فيه صحيحة، وكلمة (ما) مصدرية ظرفية؛ ومعناها (١) : المدة؛ يعني: مدة عدم وجود الأذى فيه فيصلي فيه، وأمَّا إذا وجد فيه منيًا أو نحوه؛ فلا يصلي فيه؛ لكونه حاملًا للنجاسة، فأشار البخاري بهذه الترجمة إلى اشتراط طهارة الثوب من النجاسة؛ لأنَّه ذكر أولًا اشتراط ستر العورة، وهنا ذكر اشتراط طهارة الساتر، وهذا يدل على أن المؤلف يرى نجاسة المني كما هو مذهب الجمهور؛ لأنَّه صرح بهذه الترجمة صلاة الرجل في الثوب الذي يجامع فيه، والغالب أنَّ هذا الثوب يصيبه شيء من المني حين الجماع، فأفاد أن ما يصيبه من المني نجس لا يصلى بالثوب الذي فيه المني، وأفاد أيضًا أن رطوبة الفرج نجسة، وقد يقال: لا يفيد كلامه ذلك؛ لأنَّه صرح بالجماع، ووجوده لا يخلو عن المني، فالرطوبة داخلة في المني، وهي طاهرة، لكن لما خالطه النجس؛ تنجست؛ فليحفظ.

ويدل لما ذكرناه ما رواه أبو داود والنسائي من طريق معاوية بن أبي سفيان: أنه سأل أخته أم حبيبة: (أهل كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي في الثوب الذي يجامع فيه؟ قالت: نعم؛ إذا لم ير فيه أذًى)، وصححه ابنا حبان وخزيمة، وسقط في رواية الحموي لفظة: (فيه)، وفي رواية المستملي: (إذا لم ير فيه دمًا)، وهذه الرواية تعين ما قلنا؛ لأنَّ الدم أخو (٢) المني في النجاسة.

قال الكرماني: وقوله: (ومن صلى...) إلى آخره: من تتمة الترجمة.

وقال صاحب «التوضيح» : (وهذا منه دال على الاكتفاء بالظن فيما يصلي فيه لا القطع) انتهى.

قلت: فإن غلبة الظن بمنزلة اليقين، فلو غلب على ظنه نجاسة الثوب؛ لا يصلي فيه ما لم يتيقن طهارته إما بغسله كله أو بعضه بأن تحرى مكانًا خاصًّا فيه أنه الذي أصابه النجس، فغسله فيصلي فيه، ولا كلام عند القطع بالنجاسة، كما لا يخفى.

وزعم ابن حجر أن البخاري يشير بقوله: (ومن صلى...) إلى آخره: إلى ما رواه أبو داود، والنسائي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان من طريق معاوية بن أبي سفيان: أنه سأل أخته أم حبيبة: (أهل كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي في الثوب الذي يجامع فيه؟ قالت: نعم؛ إذا لم ير فيه أذًى)، قال إمام الشَّارحين: (قلت: وما قاله الكرماني أوجه؛ لأنَّه اقتبس هذا من الحديث المذكور، وأراد به إدخاله في ترجمة الباب، وهذا كما رأيت قد أخذ ثلاثة أحاديث، وأدخلها في ترجمة الباب؛ الأول: حديث سلمة ابن الأكوع، وقد مر، والثاني: حديث أم حبيبة، أخرجه أبو داود عن معاوية بن أبي سفيان: أنه سأل أخته أم حبيبة زوج النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «هل كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي في الثوب الذي يجامع فيه؟ فقالت: نعم؛ إذا لم ير فيه أذًى»، وأخرجه النسائي، وابن ماجه، وابن حبان، وصححاه، الثالث: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، كما سنذكره) انتهى كلامه.

قلت: وفي حديث أم حبيبة دليل واضح على نجاسة المني؛ لأنَّه عليه السَّلام صرح: بأن ما يصيب الثوب حال الجماع نجس لا يصلى فيه، وليس يصيب الثوب حال الجماع إلا المني، فهو دال على نجاسته، وهذا حجة على من زعم طهارته؛ فافهم.

(وأمر النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) فيما وصله المؤلف في الباب الثامن بعد هذا الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين يوم النحر تؤذن بمنًى ألَّا يحج بعد العام مشرك، و (ألَّا يطوف بالبيت)؛ بالنصب؛ لأنَّه في الحديث المأخوذ منه عطف على المنصوب؛ وهو قوله: (ألَّا يحجَّ بعد العام مشرك)، انتهى (عريان)؛ أي: مكشوف العورة، فاستدل بهذا المؤلف؛ حيث إنه اقتباس من حديث أبي هريرة على اشتراط ستر العورة في الصلاة؛ لأنَّه إذا كان سترها في الطواف الذي هو يشبه الصلاة واجبًا؛ فاشتراط سترها في الصلاة أولى وأجدر، كذا قرره إمام الشَّارحين، وزعم ابن حجر أن المؤلف أشار بذلك إلى حديث أبي هريرة، ولكنه ليس فيه التصريح بالأمر، ورده إمام الشَّارحين فقال: (قد ذكرت لك أنَّ هذا اقتباس، والاقتباس ههنا اللغوي لا الاصطلاحي؛ لأنَّ الاصطلاحي: هو أن يضمن الكلام شيئًا من القرآن أو الحديث لا على أنه منه، وههنا ليس كذلك، بل المراد ههنا أخذ شيء من الحديث، والاستدلال به على حكم؛ كما كان يستدل به من الحديث المأخوذ منه، فحديث أبي هريرة المذكور يدل على اشتراط ستر العورة في الصلاة بالوجه الذي ذكرناه، وهو يتضمن أمر أبي بكر، وأمر أبي بكر يتضمن أمر النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وأخذ البخاري من ذلك المتضمن صورة أمر، فقال: وأمر النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ألَّا يطوف بالبيت عريان، واقتصر من الحديث على هذا؛ لأنَّه هو الذي يطابق ترجمة الباب؛ فافهم، فإنه دقيق لم ينبه عليه أحد من الشراح، انتهى.

قلت: وهو وجيه لم يسبق بنظيره رحمه الله تعالى.


(١) في الأصل: (معناه)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (أخ)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>