للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

فيه، فقوله: «ما دام في مصلاه الذي يصلي فيه»؛ قيد؛ لصلاة الملائكة عليه، ومفهومه: إذا انصرف من مكانه الذي يصلي فيه في المسجد؛ لا تصلي عليه الملائكة، وليس كذلك؛ لأنَّه صرح في الحديث، كما نقله إمامنا الشَّارح قريبًا ولفظه: «كان في صلاة ما كانت تحبسه...»؛ الحديث، وعلى هذا؛ فالمراد به: أنَّه تصلي عليه الملائكة ما دام منتظرًا للصلاة، سواء ثبت في مجلسه ذلك من المسجد، أو تحوَّل إلى غيره ما لم يخرج من المسجد، فإذا خرج منه؛ فلا تصلي عليه؛ فالمراد بقوله: «في مصلاه» : إنَّما هو المسجد، كما قرره إمام الشَّارحين قريبًا.

وقال ابن حجر: (يمكن حمل «في مصلاه» ههنا على المكان المُعدِّ للصلاة لا الموضع الخاص بالسجود، فلا تخالف بين حديث الباب والحديث (١) الأتي في باب «من جلس في المسجد») انتهى.

قلت: إن كان مراده بالمكان المعد للصلاة: المسجد؛ فمسلَّم، كما ذكرناه، وإن كان مراده غير ذلك؛ فغير مسلَّم، كما بيناه قريبًا، والله أعلم.

وقوله: (ما لم يُحْدِث) : قيد ثان لصلاة الملائكة عليه، وهو بضمِّ التحتية أوله، وسكون الحاء المهملة، والمراد به: الحدث الناقض للوضوء، والمعنى: تصلِّي عليه مدة دوامه في المسجد، ومدة دوامه لم يحصل منه حدث.

قال إمام الشَّارحين: (رواية الجمهور؛ بالتخفيف من الإحداث، لا بالتشديد من التحديث، كما رواه بعضهم وليست بصحيحة، ولهذا قال السفاقسي: «لم يذكر التشديد أحد») انتهى.

قلت: مراده بقوله: (بعضهم) : ابن حجر العسقلاني؛ فإنَّه رواها بالتشديد من التحديث، وليست هذه الرواية بصحيحة؛ لأنَّ المراد بالحدث: الناقض للوضوء، ولهذا نفى السفاقسي عن جميع الرواة ذكرها.

وقال الزركشي في «التنقيح» : (قصد البخاري بهذا الباب تفسير الحدث بالناقض للطهارة، وهو تفسير أبي هريرة راوي الحديث، وفسره غيره بالحديث في غير ذكر الله) انتهى.

قلت: ولا ريب أن تفسير أبي هريرة هو الصواب؛ لأنَّ صاحب الدار أدرى، ولهذا قال الداودي: (روي: «يحدِّث»؛ بتشديد الدال، وهو غريب) انتهى.

وقوله: (تقول) أي: الملائكة: (اللهم؛ اغفر له)؛ يعني: يا ألله؛ اغفر له ذنوبه (اللهم؛ ارحمه)؛ يعني: يا ألله؛ أنزل عليه رحمتك؛ بيان وتفسير لقوله: (تصلي) السابق.

قال إمام الشَّارحين: (والفرق بين المغفرة والرحمة أن المغفرة: ستر الذنوب، والرحمة: إفاضة الإحسان إليه) انتهى.

وقال العجلوني: (وذكر غيره أنَّ المغفرة لا تستدعي سبق ذنب) انتهى.

قلت: وهو ممنوع، ويردُّه قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: ٢]؛ فإنَّه يدلُّ على أن المغفرة ستر الذنوب الحاصلة سابقًا ولاحقًا؛ لأنَّ معنى الآية قيل: (ما تقدم) : قبل الوحي (وما تأخر) : بعد الوحي، وقيل: قبل الهجرة وبعدها، وقيل: قبل المعراج، وقيل: (ما تقدم) : من ذنب آدم وحواء، (وما تأخر) : من ذنب الأُمَّة، وقيل: ما كان قبل النبوة، (وما تأخر) : عصمته من ذلك، وقيل: المراد ذنوب أمته، وعلى كل حالٍ؛ فهو دليل على أن المغفرة لا تكون إلا بعد سبق الذنوب؛ فالمغفرة سترها.

ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة مما سبق، والحاصل في معناه: أنَّ الملائكة تصلي على العبد ما دام في المسجد متوضئًا، فإذا خرج من المسجد؛ فلا تصلي عليه، وإنَّهم يصلون عليه ما لم تُنقض طهارته، فإذا أحدث؛ حُرِم صلاتهم، ولو كان مستمرًّا جالسًا ينتظر الصلاة.

وقال السفاقسي: (الحدث في المسجد خطيئة يُحرَم به المُحدِث الاستغفار من الملائكة، ولما لم يكن الحدث فيه الكفارة ترفع أذاه عنهم، كما يرفع الدفن أذى النخامة فيه؛ عوقب العبد بحرمان الاستغفار من الملائكة؛ لما آذاهم به من الرائحة الخبيثة).

وقال ابن بطال: (من أراد أن تحطَّ عنه الذنوب بغير تعب؛ فليغتنم ملازمة مصلاه بعد الصلاة؛ ليستكثر من دعاء الملائكة واستغفارهم له، فهو مرجوٌّ إجابته؛ لقوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: ٢٨]).

وقال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث بيان فضيلة من انتظر الصلاة مطلقًا، سواء ثبت في مجلسه ذلك من المسجد، أو تحول إلى غيره، وفيه: أن الحدث في المسجد يبطل ذلك ولو استمر جالسًا، وفيه أن الحدث في المسجد أشد من النخامة فيه) انتهى.

قلت: إنَّما كان أشد؛ لأنَّ النخامة كفارتها دفنها، وأما الحدث؛ فلا كفارة له.

وقال إمام الشَّارحين: (اختلف السلف في جلوس المحدث في المسجد؛ فروي عن أبي الدرداء: أنَّه خرج من المسجد فبال، ثم دخل وتحدث مع أصحابه ولم يمس ماء، وعن عليٍّ مثله، وروي ذلك عن عطاء، والنخعي، وابن جبير، وكَرِه ابن المسيب والحسن البصري أن يتعمد الجلوس في المسجد على غير وضوء) انتهى.

قلت: وهل إذا أحدث في المسجد، ثم توضأ وانتظر، يعود استغفار الملائكة عليه أم لا؟ والظاهر: أنَّه يعود؛ لأنَّ المراد: انتظاره متطهرًا وقد حصل وإن كان قد وقع منه الحدث؛ لأنَّ هذا من باب زوال المانع؛ فتأمل، والله أعلم.

(٦٢) [باب بنيان المسجد]

هذا (باب) بيان صفة (بُنيان)؛ بضمِّ أوله: مصدر (المسجد)؛ أي: النبوي، فاللام فيه للعهد، وجوَّز البرماوي كونها للجنس، قال العجلوني: (وهو غير ظاهر).

قلت: بل الظاهر: كونها للعهد؛ فافهم.

قال في «القاموس» : (البني: نقيض الهدم (٢)، بناه يبنيه بنيًا، وبناءً، وبنيانًا، وبنيةً، وبنايةً، والبناء: المبني والجمع «أبنية»، وجمع الجمع: «أبنيات»، والبُِنية -بالكسر والضم-: ما بنيته، والجمع «بُِنًى»؛ بالضم والكسر، ثم قال: والبنية؛ كغنية: الكعبة، وبنى فلانًا: اصطنعه (٣)، وعلى أهله، وبها: زفها؛ كابتنى) انتهى.

وقال الجوهري: (البنيان: الحائط يقال: بنى فلانٌ (٤) بيتًا، من البنيان، وبنى على أهله بناء؛ أي: زفها، والعامة تقول: بنى بأهله، وهو خطأ) انتهى.

(وقال أبو سعيد) : هو سعْد -بسكون العين- ابن مالك بن سنان بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر -بالموحدة والجيم- وهو خدرة الذي ينسب إليه أبو سعيد، فيقال: الخدري، وهو ابن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الخزرجي الخدري، وغزا أبو سعيد أُحدًا، وبعد ذلك مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثنتي عشرة غزوة، وكان أبوه سعد بن مالك صحابيًّا استشهد يوم أُحد، ولم يكن في أصحابه أفقه أو أعلم من أبي سعيد، كذا قاله سهل بن سعد، كما رواه حنظلة الجمحي، توفي بالمدينة يوم الجمعة سنة أربع وستين، أو أربع وسبعين، ودفن بالبقيع (كان سقف المسجد)؛ أي: مسجد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في زمنه، فاللام فيه للعهد، وزعم الكرماني أنَّها للجنس، قال إمام الشَّارحين: (وهو بعيد) انتهى.

قلت: ووجهُ بعده أنَّ هذا التعليق رواه المؤلف مسندًا في (الاعتكاف)، وأبواب (صلاة الجماعة)، فهو مختصر من مطول، ولفظه: (قال أبو سعيد: جاءت سحابة فمطرت حتى سال السقف...) إلى أن قال: (فرأيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته)؛ فهذا يدلُّ على أن المسجد إنَّما هو المسجد النبوي المدني؛ فافهم.

(من جَريد النخل)؛ بفتح الجيم: هو الذي يجرد عنه الخوص، فإن لم يجرد؛ يسمى سعفًا، ومطابقة


(١) في الأصل: (حديث)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (العدم)، والمثبت موافق لما في «القاموس».
(٣) في الأصل: (اصطفه)، وهو تحريف.
(٤) في الأصل: (فلانًا)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>